لهذه الأسباب لم تعد زيادة الرواتب “نعمة”..تشوهات أفسدت ” الطبخة” ..؟؟!!

ناظم عيد – الخبير السوري

لم نتفق بعد على تصنيف ملامح اقتصادنا نحن السوريين..فبين خانتي السلبي والإيجابي ضاعت البوصلة، وهذا بحدّ ذاته يؤشّر على الخلل الكبير والتباين في البنى الذهنية وسط التنفيذيين والأكاديميين على حدّ سواء..فنحن في مشكلة بنيوية إذاً لا ندري إلى أي مدى سنستطيع تلافيها، وتحقيق التناغم في النظرة إلى الأشياء لنتوافق على مسارات العمل وكذلك الحلول لمعظم مشاكلنا العالقة.

ولعله من اللافت – مثلاً – ألا يتوقف العديد من الاقتصاديين عن المديح والتهليل لميزة اعتبروها أولى مشجعات جذب الاستثمار الداخلي والخارجي، دون أن يعيروا أي اهتمام لمعنى هذه الميزة من الجهة الأخرى، أو استكشاف مدلولاتها، أو يكلفوا خاطرهم النظر إلى تأثيرها على معيشة أغلبية السوريين، وخصوصاً ذوي الدخل المحدود، فانخفاض الأجور ليس ميزة وإنما هو مصيبة تنعكس بكل ثقلها وتداعياتها على تراجع الإنتاجية الفردية للعامل، وعلى الإنتاجية الكلية للمجتمع، لأن العلاقة بين الجانبين طردية، وهذا سيؤدي إلى خسارة الشركات والمصانع بسبب تدني إنتاجية العمل، ما يؤدي إلى تراجع مستويات الاستهلاك لانخفاض القدرة الشرائية لهؤلاء العاملين، وهذا ينتج – بالمحصلة- خللاً في الدورة الاقتصادية، وتباطؤاً في وتيرة النمو الاقتصادي، وخسارة للاقتصاد الوطني بأكمله..

تشوّهات

إنّ رفع الأجور غير المقترن بارتفاع الأسعار خلال السنوات السابقة، منذ بداية الحرب على بلدنا،  قد أنتج تضخماً أفقد هذه الزيادات معناها وجدواها في تحسين المستوى المعيشي للسوريين، وأدى لتراجع القدرة الشرائية للعملة الوطنية، وتراجعت مستويات معيشة الأغلبية، و نظن أن الكثير من المتابعين يدركون أنّ سورية تعد من أقل الدول موازنة في العلاقة بين نسبة الأجور مقارنة مع الأرباح على مستوى الاقتصاد الكلي، وهذا مؤشر يصنف في خانة الخلل في توزيع الثروة لدينا.

 إذاً.. فالخلل بين مستوى الأجور والأسعار بات ظاهراً لم يعد من الممكن إخفاؤه ، بعد أن راحت آثاره تظهر على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذا ما يدفع مجدداً لتأكيد ضرورة ردم هذه الفجوة المتضخمة يوماً بعد يوم..

وزيادات الرواتب والأجور لا تحقق غايتها إذا لم ترتبط بثبات في الأسعار، لأنها ستبقى في حدود الزيادة الاسمية للأجور، فإذا ما حصل هذا الارتفاع المرافق في الأسعار، فإن ذلك سيرتب تضخماً في الاقتصاد، وتراجعاً في مستوى المعيشة بالمحصلة، وهذا ليس في مصلحة المواطن أولاً، ولا في مصلحة الاقتصاد والوطن أخيراً..

 خاص وخصوصي

تؤكد الإحصاءات السابقة التي توفّرت في آخر أعوام ما قبل الحرب الإرهابية على سورية، أن ثلثي الناتج المحلي لدينا هو ملك طبقة ميسورين في نخبة الوسط الاقتصادري دون سواها، فكتلة الرواتب والأجور الإجمالية السنوية كانت قد وصلت في العام 2012 إلى حوالي 703  مليارات ليرة سورية، وذلك مقارنة مع ناتج محلي يصل إلى 2700 مليار ليرة تقريباً، وهذا يعني وجود 2000 مليار ليرة من هذا الناتج هي حصة الأرباح، التي تتركز في أيدي فئة من التجار ورجال الأعمال بالدرجة الأولى، وهذا يعني أن حصة الرواتب والأجور تصل إلى 26% من الناتج المحلي الإجمالي فقط، وذلك مقارنة مع نسبة 74% هي حصة الأرباح في الناتج الإجمالي، وهذا ليس رقماً وهمياً قررنا وضعه لتبرير ما نريد قوله، وإنما جاء استناداً لأرقام مسح قوة العمل التي أجراها المكتب المركزي للإحصاء خلال النصف الأول من عام 2009 – وكانت آخر إحصائية بسبب إسقاطات الأزمة والحرب على سورية – والتي بينت أن مجموع المشتغلين في سورية كان 4,9 ملايين مشتغل، ومتوسط الرواتب والأجور الشهرية في القطاع العام يبلغ 12,830 ألف ليرة، بينما كان متوسط الأجور والرواتب الشهرية للعاملين في القطاع الخاص 9,680 آلاف ليرة، وهذا يوصلنا حسابياً إلى أن كتلة الرواتب والأجور الشهرية لإجمالي العاملين في سورية هي:

رواتب العاملين في القطاع العام شهرياً: 12,830 ألف ليرة × 1,4 مليون = 18 مليار ليرة شهرياً.

رواتب العاملين في القطاع الخاص شهرياً: 9,680 آلاف ليرة × 3,5 مليون = 34 مليار ليرة شهرياً.

وبالتالي فإن كتلة الرواتب السنوية لمجمل العاملين في سورية تعادل 18 + 34 = 52 مليار ليرة شهرياً × 12 شهراً= 624 مليار ليرة سورية، وإذا ما أضفنا إلى هذه الكتلة 79 مليار ليرة سورية تكلفة الزيادة التي حصلت في العام 2011 على رواتب العاملين في القطاع العام ، نجد أن وسطي الكتلة الإجمالية للرواتب هو بحدود 703 مليارات ليرة سورية..وهذه حسبة أجريناها للاستئناس ولا تصلح للإسقاط بأرقامها على الوضع الراهن..لكنها تصلح كمؤشّر عام لم تختلف اتجاهاته بين ذاك الأمس وهذا اليوم.

تصويب ضروري

المقارنة مع بعض الدول العالمية في مجال علاقة الأجور والأرباح ضرورية أحياناً لتوضيح حجم الخلل لدينا في مجال توزيع مكوني الناتج المحلي (الأجور، الأرباح) لدينا، ففي نهاية عام 2009، بلغت حصة الأجور في الناتج المحلي الإجمالي في أوكرانيا 49,1% مقابل 50,9% للأرباح، بينما متوسط حصة الأجور في الاتحاد الأوروبي 48,8%، كما وصلت حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي في بعض دول الاتحاد الأوروبي إلى 54% مقارنة مع الأرباح، فصحيح أن نسبة نمو الأجور في أوروبا عموماً لا تتجاوز 2%، إلا أن هذا النمو غالباً ما يكون حقيقياً عن الأجور الفعلية، وليس معبّراً اسمياً عن هذا النمو فقط..

وبالعودة إلى هذه النسبة في اقتصادنا نجد أن 74% هي حصة الأرباح، ونحو 26% حصة الرواتب من الناتج الإجمالي، وهذا يعني أن الفجوة كبيرة بين حصتي الرواتب والأرباح في اقتصادنا، إذا ما أخذا كنسبتين مستقلتين، أو إذا ما تمت مقارنتهما ببعض الدول العالمية، وهي تعبر عن خلل حقيقي في توزيع الثروة، لذلك فإن المطلوب هو تصحيح العلاقة الكلية في الاقتصاد بين الأجور والأرباح لمصلحة الرواتب والأجور، والتي هي أخفض من النسب العالمية لهذه الحصة، حتى في الدول الرأسمالية الكبرى، ودون تصحيح هذه العلاقة لن يتحسن المستوى المعيشي للسوريين ولن تطرأ عليه تغييرات جدية، فالأسعار تزداد سنوياً بأضعاف زيادة كتلة الرواتب، وبالتالي فإن النمو المتوازن لهاتين الكتلتين سيفتح الطريق أمام نمو اقتصادي شامل متوازن، تخفف فيه بالتدريج التشوهات القائمة بين التناسبات الأساسية للاقتصاد الوطني، وبالتالي إيقاف تدهور الوضع المعيشي.

ترميم

عند الحديث عن ضرورة إعادة العلاقة بين الأجور والأرباح في اقتصادنا الوطني إلى نصابها الصحيح، وإلى علاقتها المتوازنة والضرورية، يخرج علينا الكثيرون بمزاعم عدم توفر الموارد الاقتصادية لرفع الأجور، وهذا في الواقع غير صحيح، لأن رفع الأجور المترافق مع ارتفاع الإنتاجية سيغطي تكلفة الزيادة على الأجور، وسيفيض عنها خلال آجال زمنية قصيرة، كما أن الأهم من هذا كله، هو أن تصحيح هذه العلاقة يتم من خلال فرض ضرائب ورسوم إضافية على أصحاب رؤوس الأموال (خاصة الصناعية منها) بدلاً من التفنن في إعفائهم من الضرائب المترتبة عليهم، والتكرم الحكومي عليهم وإغماض الأعين عمداً عن نشاطهم الدؤوب في التهرب الضريبي فعلى الأقل يبدو المطلوب لتصحيح العلاقة هو تحصيل قيمة التهرب الضريبي التي تذهب لكبار المكلفين ليكتنزوها في المصارف المحلية أو البنوك الخارجية، والتي وصلت قيمتها حسب تقديرات العديد من الاقتصاديين في أعوام ما قُبيل الحرب، إلى 200 مليار ليرة سورية سنوياً، ” وهي قيمة التهرب الضريبي التي وردت ذات مرة على لسان وزير مالية أسبق – الدكتور محمد الحسين –  ولم يعد لتكرارها بعد المرة الأولى” بدلاً من إدخالها إلى الخزينة العامة للدولة، وعودتها بشكل طبيعي إلى شرايين الاقتصاد الوطني عبر الموازنة العامة، والاستفادة منها في الجانب الاستثماري عبر بناء المشاريع، والحد من نسب البطالة المزمنة لدينا، أو من خلال استثمارها في الإنفاق الجاري، والمساهمة في زيادة رواتب العاملين في الدولة، ما يساعد على تصحيح العلاقة بين الأجور والأرباح التي تعاني من خلل بنيوي مزمن أساساً، وساهم إهمال السياسات الحكومية المتعاقبة في تعميقها..

وهذه إحدى الآليات المساهمة في تصحيح العلاقة المختلة بين الأجور والأرباح على مستوى الاقتصاد الوطني، ولكن هناك آليات أخرى ومن أهمها تجفيف مستنقعات الفساد الذي كان يستنزف 30% من الناتج المحلي الإجمالي، أي إن نسبته تفوق حصة الرواتب والأجور، والذي هو في الغالب يعبر عن أرباح غير مشروعة تدخل إلى جيوب الفاسدين..والآن ربما تضخّم هذا الرقم إلى حدود كبيرة جداً !..

إذاً ..نحن اليوم في خضم متوالية خلل تزداد صورتها وضوحاً كلما لجأنا إلى الزيادة الارتجالية في الأجور، وكلّما تسرّبت النسبة غير القليلة من الناتج الإجمالي في قنوات الفساد، و أيضاً كلما ازداد حجم وقيم التهرب الضريبي – وصل اليوم إلى معدلات غير مسبوقة بسبب ترهل مكنة الاستعلام والجباية – والأهم مع بقاء الزيادات دون معادلة وتوازن في الكفّة الإنتاجية المقابلة.

هذه هي باختصار تفاصيل المشهد الكلّي المرتبك للاقتصاد، التي جعلت زيادة الرواتب نقمة على الموظف بدلاً من كونها نعمة..لأن ما يعقبها دوماً هو زيادة في الأسعار على خلفية النتيجة التضخمية التي تتسبب بها الزيادة، بما أنها لم تترافق بزيادة مفترضة في معدلات التحصيل الضريبي، أو ضرب بؤر الفساد التي تزداد ” علاواتها” اوتوماتيكياً مع ارتفاع الرواتب والأجور.

فلنصلح كل أطراف هذه المعادلة..وعندها ستكون الزيادات في الرواتب حقيقية..بل وقد لا نحتاج إليها سوى كل عقدين من الزمن مرّة واحدة..المهمة صعبة وهي جوهر كل فكرة الإصلاح..لكن لا بدّ أن نبدأ ..وكلما بدأنا أسرع حققنا نتائج أفضل.

3 تعليقات
  1. د.حسان خوجه يقول

    كل الشكر على هذه المعلومات القيمة

  2. ادارة يقول

    شكرا للمتابعة

  3. بشار المحمد يقول

    معلوملت قيمة حقا

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]