نهج جديد في إدارة مخرجات التعليم في خدمة إعادة الإعمار

 

يحتاج التحضير لإعادة الإعمار -وفق بديهيات المنطق الاقتصادي والإداري- وقبل أي شيء إصلاح وتقوية البنيان المؤسساتي، كونه أحد أهم متطلبات الارتقاء بالأداء وتعزيز الشفافية، ولنتفق قبل محاولتنا الدخول في حيثيات هذا الإصلاح ومتطلباته على أن البنيان المؤسساتي المتين لأي دولة يتميز بتأطيره لأدوار السلطات الثلاث “التشريعية، القضائية، التنفيذية” بالشكل الذي يمكن مؤسساتها وأفرادها من تنسيق أنشطتهم وجهودهم بطريقة شفافة ومنظمة، وبما يحصن المجتمع من التقلبات والمخاطر المفاجئة، ومن إساءة بعض الأفراد استخدام سلطتهم أو نفوذهم بصورة تلحق الأذى بالآخرين من أفراده.

تأقلم مع المتغيرات

انطلاقاً من هذا المنظور يبين الخبير الإداري الدكتور حسين إبراهيم أن نطاق الإصلاح المؤسساتي يشمل كافة منظمات وهيئات وجمعيات الدولة والمجتمع الرسمية وغير الرسمية، اقتصادية كانت أو اجتماعية أو ثقافية أو ذا طابع فني، بدءاً من مؤسسات السلطات الثلاثة في الدولة، مرورا بمؤسسات ومنظمات القطاع العام والخاص إلى منظمات المجتمع المدني، وهو يهدف بالنتيجة إلى تقوية بنيان مختلف هذه المؤسسات والارتقاء بأدائها لتصبح مؤسسات كفوءة ونزيهة وقادرة على التأقلم مع المتغيرات وتحقيق الأفضل في مختلف التحولات والظروف التي تواجه الدولة والمجتمع .

وأشار إبراهيم إلى أن الإصلاح المؤسساتي يرتكز على جملة من القواعد الرسمية والعرفية والتشريعات واللوائح والآليات والإجراءات وغيرها، التي تساعد الأفراد على التفاعل مع المؤسسات، على النحو التي يمكنهم من تحقيق أهدافهم وتطلعاتهم وحماية مصالحهم وحقوقهم، مبيناً أن معايير وأولويات الإصلاح المؤسساتي، تختلف بحسب ظروف وخصائص كل مجتمع، وبحسب التراكم المعرفي والمرجعية العلمية التي يستند إليها الخبراء.

قفز في المجهول

وأضاف إبراهيم أن الإصلاح المؤسساتي يبقى الركن الأهم في عملية إعادة الإعمار للدول التي عانت من الحروب والدمار، مهما اختلفت ظروف هذه الدول، وهو الطريق الوحيد التي لابد من سلوكه لبناء الدولة القوية ما يعني أن عدم إعطاء عملية الإصلاح المؤسساتي الأولوية كإحدى أهم مسارات عملية إعادة الإعمار في بلدان ما بعد الحروب يعد قفزا في المجهول ومجازفة قد يكون لها تداعياتها السلبية الكبيرة على عملية الاستقرار والتنمية وعلى مستقبل تلك الدول برمته.

أمس الحاجة

ويعوّل إبراهيم على مخرجات التعليم ودورها في إصلاح البنيان المؤسساتي، مبيناً أن الكليات والمعاهد العليا الحكومية والخاصة في سورية  تخرج أعداداً كبيرة من الخريجين في مجالات الإدارة العامة وإدارة الأعمال والعلوم السياسية من حملة الشهادة الجامعية الأولى، وهذا يعني بطبيعة الحال أن سورية لديها العديد من الأساتذة الجامعيين الأكاديميين ومن الاحترافيين في هذا المجال، وأن هناك كذلك العديد من أبحاث الماجستير والدكتوراه، التي يتم إنجازها سنويا والتي في غالبها تتناول قضايا هامة تتعلق بواقع سورية المؤسساتي. فالساحة إذاً تزخر بالكثير من الكوادر في مجالات الإدارة العامة وإدارة الأعمال والعلوم السياسية، وما نحن بأمس الحاجة إليه هو التوظيف الكفء لهذه الكفاءات وإعطائها الفرصة الحقيقية للإسهام في تطوير الواقع المؤسساتي في سورية على مختلف مساراته، ليكونوا بتلك حاملا لهذا المشروع، خلال المرحلة القادمة.

نقلة نوعية

وفي هذا الإطار أشار إبراهيم إلى أنه وبهدف الارتقاء بمستوى الخريجين من هذه، الكليات والمعاهد، لابد من إعادة النظر في المعايير والأسس التي يتم على أساسها قبول الطلاب للالتحاق في بعض هذه الكليات والمعاهد والتطوير المستمر للمناهج والخطط التدريسية في هذه الجهات بما يتواءم مع المتغيرات في الواقع المؤسساتي للدولة ويساعد على رفد المؤسسات الحكومية والخاصة بالكوادر القادرة على مواجهة التحديات وإحداث النقلة النوعية التي ننشدها لواقعنا المؤسساتي.

أما ما يتعلق بالأعمار والمخرجات البحثية التي تنجزها هذه، الجهات فلا بد من ربطها بالواقع بحيث يتم توجيه الأبحاث لتتناول المشاكل ذات الأولوية التي يعاني منها الواقع المؤسساتي للاستفادة منها في إيجاد الحلول المناسبة لها. وهذا يتطلب تنفيذ هذه، الجهات سياسات بحثية محددة في هذا المجال يتم اعتمادها بالتعاون والتنسيق مع الهيئة العليا للبحث العلمي المعنية أساسا بوضع إستراتيجية وسياسات توظيف مخرجات البحث العلمي في خدمة التنمية والتطوير والابتكار على المستوى الوطني.

خلاصة مقترحات

وخلص إبراهيم إلى جملة مقترحات تتمثل باستقطاب الخبرات المتميزة والكفاءات الوطنية في الداخل والخارج المتخصصة في هذا المجال للانخراط في هذا المشروع، والعمل بشتى السبل الممكنة للحيلولة دون استمرار نزوح الخبرات الوطنية للخارج، ما يتطلب العمل بداية عل على بناء قاعدة بيانات للخبراء والمختصين من أكاديميين واحترافيين في المجال المؤسساتي، وفق معايير دقيقة قابلة للقياس تمكن من اختيار الأكفأ واعتماد أحدث الأساليب لتصنيفهم وتوصيف مهاراتهم، وفي هذا الإطار لابد من إصدار الصكوك أو تعديل بعضها النافذ حاليا، بما يتيح إمكانية التعاقدوالاستفادة من هذه الخبرات بسقوف أجر جاذبة وبشكل مرن بعيدا عن البيرقراطية والروتي ، وهذا يتطلب أيضا العمل بالسرعة الممكنة على إجراء تعديلات جوهرية في قانون العاملين الأساسي لجهة إنصاف الكفاءات من العامل في الدولة والحفاظ عليهم، بحيث تتم إعادة النظر بتصنيف العامل وبسقوف الأجور والحوافز وأسس التقييم وغيرها. إضافة إلى الانفتاح على تجارب الدول الأخرى في مجال الإصلاح المؤسساتي، والاستفادة منها بالفعل لا بالقول لأن ذلك من شأنه أن يجنبنا الكثير من الآلام ويساعدنا على تجاوز الكثير من العقبات، وبذلك نحول تأخرنا عن الآخر من قصور إلى فرصة يمكن من خلالها حرق المراحل وتخفيف الأعباء والكلف التي تتطلبها هذه العملية.

لتفادي هذه النتيجة

يتضح مما سبق أن الإصلاح المؤسساتي شرطاً لازماً لنجاح استراتيجيات الدول في التنمية الشاملة والمستدامة، ولهذا يرى العديد من المفكرين المعاصرين أن فشل سياسات التنمية في غالب الدول النامية، سببه أنها قامت على افتراض وجود بناء مؤسساتي قادر على النهوض بأعباء التغيير، بمعنى آخر، إن استمرار تخلف العديد من الدول النامية وتزايد فجوتها مقارنة بالدول المتقدمة، هو نتاج جهلها أو تجاهلها لتأخرها في مجال البناء المؤسساتي، ولعدم إعطائها عملية الإصلاح المؤسساتي الأولوية التي تستحقها.

حسن النابلسي

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]