ليرتنا بدولار

ناظم عيد
لن يكون من اليسير تجاهل الاستحقاق النقدي، وسط زحام أولويات ثقيلة تنطوي بمجملها تحت عنوان الإعمار، الذي شرع يقدّم نفسه بإلحاح متواتر، كمحور مركزي مُفترض في يوميات الحكومة والمواطن، وبالتالي الدولة كتحصيل حاصل.
ونكاد نجزم بأن “ملف الليرة” يختصر سلسلة المقدمات الطويلة المطلوبة للخوض في تفاصيل مهمة إعادة البناء، كما أنه يحتضن الخلاصات الكلّية لمجمل حراك الإعمار، وهذا يعني أن ثمة قدراً عالياً من الدقّة والحساسية، والصعوبة أيضاً، يعتري هذه المهمة الخاصة بأهميتها والعامة بأدواتها، لاسيما وأنه الملف الآيل إلى التلف من كثرة التقليب في أصوله، بل “اللغبصات” بمكوناته..واعذرونا لقسوة التوصيف.
فالحكومة والإدارة النقدية تبدوان اليوم أمام واجب ترميم ما “خرّبته” سابقتاهما في قوام الليرة السورية، على التوازي مع إصلاح ما أتت عليه الحرب، ولعل العارفين بالشأن النقدي سيوافقوننا الرأي بأن المهمة الأولى أصعب بكثير من الثانية، وهنا مكمن خطورة الموقف.
لقد كان لافتاً ومريباً ذلك الاندفاع الجامح، الذي أبدته السلطة النقدية السابقة طيلة سنوات الأزمة، نحو التماهي مع “فوبيا” التضخم، كمن يقرر الموت قبل حصوله، عبر مسرحية المزادات وضخ “شرائح القطع” وإطلاق العنان لشركات ومكاتب الصرافة في السوق السوداء، وتحويلها إلى مضاربين معززين بقوّة القانون، وجملة إجراءات تعسفية بالليرة والاقتصاد كانت نتائجها ملامسة الدولار لعتبة الـ600 ليرة، ومن ثم اللجوء إلى خيار التمويل بالعجز، واستنساخ الأوراق النقدية بكميات أغلب الظن أنها أكثر من كبيرة قياساً بحجم الإصدار الكلّي الذي كان مطروحاً قبيل العام 2011 أو 2012.
وهنا عند عقدة التمويل بالعجز أو “التسييل الكمّي” تبدو أكبر المشكلات التي ستعتري مسيرة إعادة ترتيب المشهد النقدي ، فسخاء الحكومة السابقة في التعاطي مع خيار الضخ الإسعافي وتكرار ارتجالاتها التمويليّة، وضع المعنيين حالياً أمام خيارات يبدو أسهلها بالغ الصعوبة.
فإما أن يُبقوا على الكتلة الفضفاضة حالياً، وهذا يعني بقاء سعر صرف الليرة متواضعاً، إن لم نستطع تحقيق المعادل الإنتاجي المتوازن، أي الوصول إلى إنتاج سلعي يوازي الكتلة النقدية الإجمالية، أو تحقيق المعادل النقدي ومواكبة الكتلة النقدية بالليرة بما يوازيها من القطع الأجنبي، وفي كلا الحالتين ثمة صعوبة بالغة إن لم نقل استحالة.
والخيار الثاني الأكثر واقعيةً، يتمثّل بالاستعداد لشفط الكتلة النقدية الفائضة من التداول في الأسواق، وتقليل المعروض السوقي من العملة السورية، وهذا ليس متاحاً إلّا عبر إصدار سندات الخزينة، لأن الجزء الأكبر من التمويلات التي جرت – بالعجز – ذهبت إلى أيدي قلّة من الحائزين، على اعتبار أن الهدف الأول منها كان تلبية بند الإنفاق الجاري – كتلة الرواتب والأجور السنوية حوالي 700 مليار ليرة سورية – ومثلها تقريباً لمشتريات القطاع العام، و نفقات أخرى التهمت كلّها اعتمادات الموازنات التضخميّة في السنتين أو الثلاث الأخيرات، وذهبت لجيوب بضعة مئات من التجار والصناعيين، وبات من المستحيل استعادتها إلا عبر خيار السندات، أو بإجراءات شبه بوليسية وهذا غير وارد.
الواقع أن السندات خيار استراتيجي وطبيعي يعقب التمويل بالعجز في الظروف الاستثنائية والأزمات كالتي ألمّت بنا، وليس أمامنا سواه للانتصار لليرة وإنصاف المواطن، لكن لا بدّ أولاً من تخفيض معدلات الفائدة المصرفية لأقل من فائدة السند لتشجيع الطلب على الأخير، ثم بلورة خيارات مناسبة – قبل الانطلاق – لاستثمار وتوظيف أموال السندات، ولابأس أن يصار إلى توجيه جزء من هذه الأموال لإعادة ترميم وبناء الاحتياطي المركزي من القطع الأجنبي، تماماً كما تعزيز البنى الإنتاجية الحقيقية، ونعتقد أن لدينا من المقومات الاقتصادية والتنوع ما يتكفّل أن تكون ليرتنا بدولار.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]