“لوثة” اجتماعية تتوعد أهم وأغنى الموارد السورية ..؟

لا تقبل الخصال الفردية الحميدة عادة إسقاطها على الملامح العامة للدولة كمفهوم مؤسساتي راقٍ، فالعاطفة والتراحم والسخاء والتسامح وحتى الشجاعة في بعض ملامحها، تغدو معاني بغيضة إلى حد الشؤم، عندما ترخي بملامحها على تعاطي الدولة مع أعمالها، مهما حاولنا تبرير مثل هذه الخصوصيات تحت عنوان “الأبوية”، وهي السمة التي بات علينا الاعتراف بأنها كانت مصدر دوامة خرساء ندور فيها حالياً، ونحن نعيد ترتيب مفردات دور الدولة بأبعاده الجديدة.
والواقع أن أية مقاربة لهذه المشكلة، التي غدت بنيوية عميقة وليست سطحية، سيعتريها تشعبات وتداخلات في الكثير من المطارح، إلّا أننا نجد أنفسنا الآن أمام حيثيّة لا بد من طرحها للجدل والنقاش كأولوية ملحّة، ونحن نُشرع الأبواب لتدفقات عشرات الطلاب نحو عام جامعي جديد، وتتعلق بالوظيفة العامّة، والبعد الاجتماعي لإنتاج فرص العمل في سورية.
المشهد يبدو مقلقاً بالفعل لكل من يدرك أن كل هذه الحشود، أو معظمها، تنشد مجرّد فرصة عمل حكومية، في طمسٍ تعسفي لكل المهارات والميزات الفردية، حوّل جامعاتنا إلى “معاهد بائسة” لإعداد الموظفين، وهذا ليس خللاً مؤسساتياً، بل “وباء اجتماعي” انتقل إلى مؤسساتنا التعليميّة التي انصاعت لغوايات استحكمت بالمزاج الجمعي لدينا، وأربكت مسارات الاستثمار الحقيقي لكوادر هي في المحصّلة ملك للدولة، كما أي ثروة من الثروات الطبيعيّة.
الآن علينا أن نفصح علناً إن كان من الحكمة الاستمرار في تحويل طالب، متفوّق بذكائه وتحصيله، إلى مجرّد موظف حامل للقب مهني راقٍ، مهندس أو طبيب أو صحفي مثلاً، لن يكون إلّا فائضاً جديداً أضيف إلى القائمة التقليدية لطوابير البطالة المقنّعة التي تنوء بحملها مؤسسات الدولة، ووافد بكامل الحيوية إلى مسرح الردّاحين الشتّامين الساخرين من يوميات الموظف الحكومي !؟
دعونا نسأل عن تقديرات كل من يدّعي الاطلاع والدراية، عن عدد الطلاب الذين اختاروا اختصاصاتهم الجامعية بمعزل عن “جذوة المفاخرة الاجتماعية” أو إملاء المجموع الوافر في الثانوية العامة ؟؟
وكم هو عدد الطلاب الذين اختاروا كليّات تتطلب مجموعاً أقل من مجموع العلامات الذي فازوا به، لأنهم يسعون نحو هدف ورغبة حياتية في مفصل ينطوي على إقرار مستقبل و تقرير مصير، وليس استعراضاً أجوفاً مدمراً ومحطماً للطموح ؟؟
ما هو نصيب العمل الخاص، أي المشروع الفردي وليس فرصة العمل الخاصة، في توجّه كامل الطيف الواسع لطلبة الجامعات السوريّة، وكم عدد الذين يرفضون أن يكونوا موظفين براتب شهري، يدركون بيقين أنه ليس إلّا “مصروف جيب شخصي”..؟؟
و إن كان ذلك خللاً قادماً من “مفازات” اجتماعية ، هل علينا أن نستسلم لأمر واقع و “لوثة” مقيمة بيننا منذ أجيال ؟؟
الحقيقة بتنا في حال يستوجب الاستدراك أو على الأقل البدء بخطوات تصويب فعّالة، وتوجيه اهتمامات الطلبة والخريجين نحو خيارات متنوعة في مضمار “المشروعات الفردية الخاصة”، حسب اختصاصاتهم النوعية. وهذا يملي برامج توعية ومناهج تدريب على امتداد سنوات الدراسة الجامعية، كأن يُصار إلى إدخال مقرر إلى كل الاختصاصات الجامعية، يعنى بإدارة وتأسيس المشروعات الصغيرة، والفرص التي يتيحها كل اختصاص، وعرض دراسات جدوى اقتصادية لمشروعات يمكن أن يتبنّاها الطلبة في مرحلة التخرّج، وبذلك نكون قد أسسنا، فعلاً وليس مجرّد قول، لبنية مشروعات أهلية صغيرة ومتناهية الصغر، ووضعناها بين أيدٍ خبيرة متخصصة كمكونات اقتصادية إنتاجية أو خدمية يمكن أن تعدنا بمنتج منافس.
لن نسترسل في التفاصيل فهذه مهمتنا كإعلاميين، بل مهمة فرق حكومية متخصصة، لكن من الضروري أن نبدأ فوراً، وننطلق من قناعة مفادها أنه آن الأوان لننقذ كوادرنا التائهة، و نعيد توليف طاقاتها باتجاهات تنموية بنّاءة لهم ولبلدهم، وليست مجرّد “صرعة” اجتماعية هدّامة تتوعدنا بهاوية محققة.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]