الشعير الفاسد والدولارات العائدة إلى الخزينة العامة..

 

بعد مدٍّ وجزر عمره عشر سنوات بالتمام والكمال بين الجمارك وتجار مخالفين بشأن باخرة «يونفرسال تشالنجر» الشهيرة بشعيرها الفاسد، قطع القضاء المختص الشك باليقين بإصدار حكم قطعي لمصلحة الجمارك، بعد تأكيد إصابة الكميات المضبوطة المقدرة بـ55 ألف طن من الشعير بآفة «النيماتودا» الممنوعة من الدخول إلى القطر، ما وفر على الدولة دفع مبلغ قدره 6 ملايين دولار وذلك لقاء غرامات تأخير الباخرة مدة 70 يوماً، حسب ادعاء المخالفين، الذين استغلوا ثغرة قانونية في ذاك الوقت لإطالة أمد القضية بغية التهرب من دفع الغرامات، أو أقله التحايل على القانون لعلها تسقط بالتقادم، وهنا نتساءل: إلى متى سيظل المخالفون ينجون بأفعالهم المثبتة بالدليل القاطع؟ وألا يستحق مثل هذه القضايا ومدتها الطويلة وقفة مطولة من المعنيين لإيجاد حل معقول يضمن البت السريع فيها حرصاً على المال العام، ومنعاً لاستغلال المخالفين ثغرات قانونية معينة تضمن الحكم لمصلحتهم.

مخالفة ومرفوضة

بدأت قضية الباخرة «يونفرسال تشالنجر» الشهيرة عندما وصلت إلى مرفأ طرطوس بتاريخ 21 -4 – 2007 محملة بكمية 55 ألف طن من مادة الشعير العلفي منشأ ومصدر أوكراني، حيث تم سحب العينات من قبل اللجنة المشكلة بالأمر الإداري رقم 6741/10/11 وتحليلها في مخبر «النيماتودا» في مديرية زراعة حماة للتأكد من خلو الإرسالية من الإصابة بهذه الآفة الحشرية، لكونه المخبر الوحيد المتخصص والمعتمد لإجراء مثل هذا النوع من التحاليل، التي أظهرت إصابة الإرسالية بـ«النيماتودا» وهي من النوع المتطفل «آفة حشرية» ويمنع دخولها إلى البلاد بأي نسبة، وتالياً الإرسالية مرفوضة ويمنع دخولها القطر.

الهروب إلى الأمام

إثبات مخالفة باخرة الشعير كان يفترض بأصحابها الإذعان إلى ماجاء في التحاليل المخبرية، وتالياً تسوية مخالفتهم ودفع الرسوم المستحقة والعمل على إعادة تصدير هذه الإرسالية المرفوضة بموجب بيان إعادة تصدير كما في الحالات المماثلة، التي وردت سابقاً وتم إعادة تصدير هذه البضاعة، لكن عوضاً عن ذلك قاموا باللجوء إلى القضاء، وبناء عليه حللت عينات من الشعير في جامعة تشرين في مخبر غير متخصص بهذه العينات لأسباب غير معروفة، لتكون النتيجة كما أرادها المخالفون عكس نتائج التحليل السابقة وإثبات خلوها من يرقات «النيماتودا»، ليصدر قرار رقمه 1899 تاريخ 21-5-2007 بتسجيل معاملة جمركية بذلك، وفعلاً سجل أصحاب العلاقة معاملة جمركية من النموذج im4 بالرقم 1289 وذلك بكمية 12 ألف طن من أصل الإرسالية البالغة 55 ألف طن، وهنا أبدت المديرية العامة للجمارك في دمشق بكتابها رقم 1527 الموافقة على تنفيذ القرار القضائي وفق ما اشتمل عليه صدوره وفق الأصول الجمركية المتبعة والأنظمة النافذة.

ضرب من المستحيل

في هذه الأثناء أبرز أصحاب العلاقة كتاب دائرة التنفيذ المدني في طرطوس المسجل لدى الديوان بالرقم 2493-2007 تاريخ 7-6-2007 مفاده عدم صدور قرار بوقف التنفيذ، ولكن لأن الأصول والأنظمة النافذة جمركياً وزراعياً تقتضي الحصول على موافقة وزارة الزراعة على السماح بإدخال الإرسالية الزراعية المستوردة إلى القطر وتأشير البيان الجمركي، ولكون وزارة الزراعة رفضت الموافقة على السماح بإدخال الإرسالية إلى القطر بسبب إصابتها بالنيماتودا، اضطر أصحاب العلاقة بتاريخ 12-6- 2007 إلى إلغاء البيان الجمركي لأنهم يعلمون أن الموافقة على الحصول على موافقة الزراعة ضرب من المستحيل والتأخير ليس في مصلحتهم، وفعلاً تمت الموافقة على طلب الإلغاء واقترحت الأمانة الجمركية عدة نقاط منها أن الكمية 12 ألف طن المسجل بها بيان جمركي تنظم فيها مذكرة بالقضية لبضائع ممنوعة، لكونها مصابة بالنيماتودا سنداً لمختبر حماة المعتمد أصولاً والوحيد المختص بمثل هذه التحاليل وقمعها وإعادة تصديرها إلى منشئها، أما الكمية المتبقية من الإرسالية التي لم تنظم بها معاملة جمركية فيتم تسديد قيود المانيفست أو بموجب بيان إعادة تصدير مع إبراز موافقة مكتب القطع، وقد تم رفع هذا المقترح أصولاً إلى المديرية، التي أيدت مقترح الأمانة ورفعه إلى الإدارة العامة للجمارك، التي وافقت بدورها ونظمت مذكرة قضية بالتاريخ ذاته أي 17-6-2007 من دون اعتراض أصحاب العلاقة، الذين اعترفوا بالمخالفة وعرضوا التسوية، وفعلاً تم عقد التسوية وتم استيفاء الغرامة بالتصفية وتم تصديق الملف، لكن المفأجاة أن أصحاب العلاقة عمدوا إلى تقديم شكوى ضد المدير العام للجمارك ومدير جمارك دمشق، إضافة لوظيفتهم، مطالباً بفسخ التصفية التي سدد بها مبلغ التسوية بموجبها واستعادة المبلغ متذرعاً بإجباره على عقد التسوية مع الجمارك ومطالباً بفوائد قانونية تجارية من تاريخ الاستحقاق حتى تمام الوفاء.

إعادة مبلغ التصفية

بعد قبول المحكمة الجمركية بطرطوس شكلاً ورده موضوعاً لعدم الثبوت تقدم أصحاب العلاقة بطلب لاستئناف قرار المحكمة الجمركية، مطالبين بفسخ إقرار والحكم بمطالبه السابقة، ليتم فعلا قبول الاستئناف شكلاً وموضوعاً وفسخ قرار المحكمة الجمركية المستأنف والحكم بإعادة مبلغ التصفية بعد حسم المبلغ المترتب من رسوم وغرامات على إعادة تصدير البضاعة وإلزام الجهة المدعى عليها، لكن الجمارك لم ترضَ بهذا الحكم وقام المدير العام للجمارك ومدير جمارك طرطوس بالطعن بالحكم، ليبادر أصحاب العلاقة بطلب تجديد الدعوى بعد النقض إلى محكمة الاستئناف، ليحال الملف إلى مديرية جمارك طرطوس بإحالة قضايا الدولة إلى محكمة الاستئناف المدنية بطرطوس.

خطأ مهني جسيم

الجمارك عدّت ما حصل سابقاً خطأ مهنياً جسيماً وخاصة أن الأمر يعني دفع مبلغ كبير من خزينة الدولة للمخالفين ولاسيما بعد إثبات المخبر المتخصص عدم صلاحية العينة، والركون إلى مخابر غير مختصة قانوناً، حيث تم تجاهل نتيجة التحليل الصادرة من المخبر المختص بهذا النوع من التحليل والاعتماد على نتائج مخبر غير متخصص، وبناء عليه قررت الجمارك رفع دعوى مخاصمة لقضاة محكمة النقض التي أصدرت القرار 5226 تاريخ 26-12-2011، وذلك حرصاً على حماية الاقتصاد الوطني وعلى عدم بقاء هذا المفتاح بيد بعض المخالفين بشكل يمنع فتح أبواب استرداد كل غرامة تدفع نتيجة مخالفة ما، وتالياً لن يكون هناك رادع لبعض المستوردين، وهذا بدوره يؤدي إلى حرمان الخزينة من هذا المورد واستنزافه.

حق للخزينة

واصلت إدارة جمارك دمشق متابعتها لهذه القضية بغية ضمان عدم ظفر المخالفين بمبلغ كبير يعد المواطن أحق به، لكن الأمر استلزم قرابة عشر سنوات ليتم الحكم في النهاية في رد دعوة المخاصمة وانعدام القرار وذلك في تاريخ 18-7-2017، ما يعني عدم دفع 6 ملايين دولار إلى المخالفين لقاء ما عدوه تعويض أضرار عن توقف الباخرة في المرفأ حوالي 70 يوماً، مع العلم حسب مصدر في جمارك دمشق أن المخالفين رغم إصرارهم على أخذ هذا المبلغ من الجمارك قاموا في إعادة تصدير البضاعة وبيعها في أسواق أخرى بأسعار مضاعفة بشكل ينفي أساساً مطالبتهم بتعويض الأضرار، مشيراً إلى أن ما تحقق يعد إنجازاً ضمن حق الخزينة العامة ومنع سرقته من المخالفين وذلك بمساعٍ حثيثة من إدارة الجمارك العامة وجمارك دمشق ورئاسة محكمة النقض.

سرعة البت

قضية باخرة «يونفرسال تشالنجر» ليست الوحيدة، التي أخذ مسار إصدار حكم نهائي فيها وقتاً طويلاً قد يصل أحياناً إلى عقود، فهناك الكثير من القضايا المتشابهة لا تزال معلقة تدفعنا للتساؤل، ألا يستحق الحفاظ على المال العام تعاون الجهات المعنية وجلوسها على طاولة واحدة لمناقشة هذه المسألة الهامة وإيجاد آلية واضحة محددة تضمن سرعة البت في مثل هذه القضايا ومنع المخالفين من استغلال أي ثغرة لتحقيق مآربهم والتهرب من دفع مبالغ الغرامات بشكل يرفد الخزينة العامة بأموالها بدل إفادة المخالفين وتعبئة جيوبهم أضعاف مخالفاتهم، ما يشكل بصورة أو بأخرى نهب وسرقة موصوفة للمال العام المتضرر الأول والأخير منه الاقتصاد المحلي ومن خلفه طبعاً المواطنون أصحاب الحق في هذه الأموال.

عن “تشرين” – رحاب الإبراهيم

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]