ممنوع العودة إلى المربع الأول..

ناظم عيد
إن كان التسويف خصلة بغيضة في أدبيات المجتمعات والدول ، فإنه يغدو حالة “كارثيّة” في ظروف الأزمات والمراحل الاستثنائية …هذه حقيقة لابد من تقبّلها على مرارتها، مهما كانت لافحة وجارحة لنا، حين نستنتج بعد تقصّيات متأنية أننا ابتلينا بمثل هذا الداء، ولا نملك ما يكفي من دفوعات لنفي تلبّسنا به.
وقد تكون الذهنيّة الذرائعيّة أو ربما “القدريّة” التي تَصِم مجتمعنا، و بإسقاطات ذات طيف أفقي واسع كما معظم هذا الشرق القلق، هي العلّة الأبرز والأرضيّة الخصبة الجاهزة، التي أنتجت ظاهرة الترنّح والتثاقل -تسويفاً وتردداً- في إنجاز الأولويات الحكومية ذات البعد الإصلاحي على مرّ أربع أو خمس حكومات سابقة.
فحكوماتنا بكل فرقها المتعاقبة، بدت حالة تابعة لبيئتها الاجتماعيّة وإن كابرت، ونقصد هنا ما يتصل بعلاقة التأثير والتأثّر المتبادلة بين الشارع والسلطة التنفيذية، فكانت مُستقبلاً للأمراض لا مصدّراً وناشراً للعلاجات، والأمثلة كثيرة يمكن أن يكون الفساد كثقافة أحدها، وكذلك ثقافة العمل الرديئة، و الاستجابات البطيئة أو المرتبكة لمشاريع الإصلاح، كلّها “أوبئة” اجتماعية وصلت بطريقة أو بأخرى إلى مقصورات العمل التنفيذي كافةً، و نذكر أن حكومات متعاقبة غرقت في جدل توارثته عن بعضها البعض حول ملفات حسّاسة لم تُحسم، وتعاطت مع ملف الانضمام لمنظمة التجارة العالمية مثلاً، كما تتعاطى أوساطنا الشعبيّة مع سِيَر مملّة غير قابلة للتوافق بحكم تباين الثقافات، كتحديد النسل أو تشريع الزواج المدني، والأمر ذاته بالنسبة لتجاذبات و “تسويفات” أخرى أرجأت الإصلاح الضريبي، ورحّلت ملف القروض المصرفيّة المتعثّرة، ومثلها الإصلاح الإداري كمشروع مطروح حالياً لكنّه ليس بالجديد كما نعلم، وسلسلة طويلة من النيات والبرامج الإصلاحيّة، التي ضاعت وتلاشت تباعاً في دوامات سريعة ابتلعت كل شيء، إلّا المشكلات التي حاولنا علاجها بقيت تتحدّانا وتكايدنا…؟؟
إذاً مشاكلنا مع أعمالنا لم تعد إجرائية تنفيذية بتقادمها، بل باتت اجتماعية بنيوية، وإن ظهرت بلبوس فوقي عائم على مستوى النخب الرسمية، لأن هذه النخب المتبدّلة ليست إلّا من ذاك الشارع على كل حال، وهذه حقائق علينا أن نعترف بها ونقتنع بأنه لا يجوز أن نتعايش معها بتاتاً .

الآن تبدو أمامنا استحقاقات إصلاحية صعبة لا تسمح بالاسترخاء، ولا بالاستسلام للنزعات الشعبية المتسللة إلى الأروقة التنفيذية، ولا بالعودة إلى زمن “العراضات ” و ما يشبه المضافات و كرنفالات اجترار العناوين البرّاقة والجاذبة، لذا لا بدّ من نهج جديد جامد غير عاطفي ” بلا إحساس “في التعاطي مع تطبيقات الإصلاح عموماً، عنوانه “ممنوع العودة إلى المربع الأول” مهما كانت المسوّغات ومهما غارت جذورها في العمق الاجتماعي.

قد نُضطر للجوء إلى ضوابط قانونية زاجرة للمقصرين أو المعرقلين، وعلى الأرجح سنضطر، ولو اقتضى الأمر استصدار تشريعات جزائية جديدة مرافقة لبرامج الإصلاح، و إحداث محاكم متخصصة، ومن الضروري أن نحرص على التظهير السريع لنتائج عمل “مكنة” المحاسبة أو “محاكم الإصلاح”، إن اتفقنا على التسمية، على مستوى المؤسسات والشارع أيضاً، عندما يكون رجل الشارع معنياً بتطبيقات إصلاحية، فمسارح التجاوزات والارتكاب لا تقتصر على المؤسسات الرسميّة، خصوصاً في السنوات القليلة الماضية.

المهم أن نهتدي إلى وسيلة ما، مهما كانت قاسية، تضمن عدم بقائنا في دائرة التسويف، وتتيح تحقيق خطوات مديدة وليست قصيرة لحرق المراحل في استدراك مساحات الخلل التي باتت رحبة، ولامست تفاصيل حساسة في يوميات الدولة والمجتمع.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]