سورية تدخل دائرة الخطر الحمراء…التلوث عنوان “أزمة صامتة” جديدة

لم تكن بيئتنا بخير خلال السنوات الماضية، سواء قبل الأزمة أو خلالها، بل كانت مريضة تعاني من الملوثات والانتكاسات البيئية التي نقطف الآن تداعيات إهمالها، وتجاهل واقعها، فالأمراض الكثيرة التي نسمع بها، وخاصة التنفسية، تكشف حقيقة التراجع البيئي الحاصل الذي أضافت الأزمة الكثير من مسبباته.

ومع اختفاء الأرقام، وغياب الإحصائيات عن التلوث، حاولنا لملمة بعض المعلومات البيئية من الجهات المعنية التي وجدناها تردد ما سمعناه منها قبل عشر سنوات دون أي جديد، وخاصة البيئية منها، وبعضها، وخاصة وزارة الصحة، أقفلت أبوابها أمامنا، ولم تمنحنا أية معلومة بحجة أن ما نطلبه من إحصائيات عن الأمراض التنفسية، وتطور فيروساتها، وأخطر الحالات المنتشرة، يثير بلبلة تسيء إلى منظومة العمل الصحي، أما المجتمع الأهلي بجمعياته البيئية فوجدناه ينازع باحثاً عن الدعم المطلوب لتنفيذ خطته الإنقاذية للبيئة، والتي لم تخرج من دائرة الوقاية والتثقيف والتوعية غير الفاعلة على صعيد المجتمع، والتي نراها أشبه بلعبة (الطرة والنقش الوقائي)!.

تكرار لابد منه

التلوث الهوائي كان هدفنا، ولكن، وكما قلنا، لم نجد في مديريات البيئة التابعة لوزارة الإدارة المحلية سوى الاعتراف بصعوبة المرحلة المتأزمة في مختلف المجالات، والحديث العام شبه الغائب عن الواقع البيئي الموجود على الأرض، وخاصة في مجال التلوث الهوائي الذي يعود في أسبابه إلى استخدام كميات كبيرة من الوقود، سواء في وسائل النقل، أو في التدفئة المنزلية، أو في المنشآت الصناعية، ومحطات التوليد، كما يؤثر حرق النفايات على تلوث الهواء، وتنتج عن ذلك الانبعاثات الغازية الملوثة للهواء كثاني اوكسيد الكبريت SO2 وأكاسيد النتروجينNOX وأول اكسيد الكربونCO والمركبات الهدروجينية المختلفة، إضافة إلى الرصاص، والعوالق التنفسية، لاسيما ذات الأقطار الأصغر من 10 ميكرون PM110 التي تخترق الدفاعات التنفسية حاملة معها المواد السامة وبشكل ينعكس على صحة الإنسان، وخاصة على الجهاز التنفسي والوعائي والقلب، وقد أظهرت دراسات منظمة الصحة العالمية أن تلوث الهواء المحيط في المدن والمناطق الريفية سبب حوالي 4,7 مليون حالة وفاة مبكرة في جميع أنحاء العالم في عام 2012، ووقعت حوالي 88٪ من تلك الوفيات المبكرة في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، وأكبر عدد في أقاليم غرب المحيط الهادىء، وجنوب شرق آسيا.

مراقبة التركيز

في مبنى وزارة البيئة سابقاً التقينا مدير سلامة الغلاف الجوي في وزارة الإدارة المحلية م. إبراهيم العلان، ورئيس دائرة سلامة الهواء م. حكيمة هواش اللذين تحدثا عن واقع التلوث الهوائي، وأهمية مراقبة التراكيز اليومية للملوثات، وتغيراتها، والتحديات التي فرضتها مستجدات الأزمة، فأكدا على أن الوزارة عملت على تأمين محطات قياس ملوثات الهواء في أغلب المحافظات السورية وتشغيلها، غير أن الظروف التي يمر بها القطر حالت دون استثمار أغلب تلك المحطات، ولاسيما الحصار الاقتصادي الظالم، والذي منع تأمين قطع تبديل لبعض المحطات المتوقفة عن العمل، وكذلك تأمين الغازات العيارية اللازمة لعمل هذه المحطات، كما أن الظروف الحالية تفرض أيضاً أماكن وجود المحطات، وإمكانية تشغيلها.

وتابعت هواش: لقد ألقت الأزمة بآثار سلبية جداً على جميع عناصر البيئة، الأمر الذي ينعكس على القطاع الاقتصادي، والصحي، والسياحي، والزراعي، فقد تأثرت نوعية الهواء بالانبعاثات التي سببتها حرائق  الغابات المفتعلة في مناطق مختلفة من القطر، والتي تؤدي إلى انبعاث آلاف الأطنان من غاز ثاني اوكسيد الكربون، إضافة إلى خسارة مساحات واسعة من الغطاء النباتي الهام للتخفيف من تلوث الهواء، وسببت زيادة الكثافة السكانية في المناطق الآمنة ارتفاعاً في وتيرة استهلاك الوقود، وزيادة عدد الآليات التي انتقلت من المناطق الساخنة إلى المدن، وزيادة الطلب على وسائط النقل، ما يسبب الازدحامات والاختناقات المرورية، وتكرار توقف السيارات، كما أن عدم خضوع المركبات، ولاسيما باصات النقل الداخلي، للفحص الدوري، وقياس غازات العادم، مع بطئها، يعد سبباً مهماً في زيادة الانبعاثات داخل المدن!.

بالغ الخطورة

وأكمل العلان ما بدأته هواش: كما أن ضرورات تقنين التغذية الكهربائية الذي فرضته الأزمة دفعت شريحة كبيرة من المواطنين، وأصحاب الفعاليات التجارية والاقتصادية لاستخدام المولدات الكهربائية دون ضابط، والتي تسبب الضجيج، إضافة إلى انبعاث الغازات السامة، وفي قطاع النفايات لوحظ ارتفاع وتيرة الحرق العشوائي للنفايات، الأمر الذي يعد بالغ الخطورة، ويؤدي إلى انبعاثات خطيرة، ويوصف بعضها بأنه مسرطن كالديوكسينات، وساهم في ذلك زيادة كمية النفايات في الأماكن الأكثر أمناً، واختلال مواعيد جمع النفايات، وعدم إمكانية جمع النفايات في كثير من المناطق، وعدم إمكانية الوصول إلى أماكن الرمي النظامية، وتوقف العمل في أعمال إنشاء محطات النقل والمعالجة والمطامر، وهذا  أدى إلى ارتفاع في تراكيز ملوثات الهواء، وكان للاعتداءات الإرهابية التي تمت على حقول النفط وخطوط نقله الأثر الكبير على البيئة في المنطقة الشرقية، فبعد أن كان استخراج النفط قبل الأزمة يتم وفق أفضل المعايير العالمية المتعلقة بالصحة والسلامة البيئية، فقد أدت التعديات الإرهابية إلى تخريب المحطات، وتفجير خطوط نقل النفط، وتم فتح آبار النفط بشكل عشوائي، وحرق الآبار النفطية، واستخدام وسائل بدائية في نقل وتكرير النفط المسروق بمعدات بدائية ملوثة للبيئة، كل ذلك أدى إلى حدوث تلوث بيئي كبير وخطير للأراضي الزراعية والرعوية والمياه السطحية والجوفية وانتشار الدخان الأسود الحاوي على مواد ضارة ومسرطنة لها تأثير سلبي على الصحة العامة، مهدداً دورة الحياة الحيوانية والنباتية، حيث شملت الغازات المنبعثة أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين وكبرتيد الهيدروجين، والكثير من المركبات الهيدروكربونية، الأمر الذي يؤدي إلى ازدياد أمراض الجهاز التنفسي وتفشيها وارتفاع كبير في حالات السرطان المختلفة بين سكان المناطق المجاورة، والتشوهات الخلقية للمواليد الجدد، لاسيما نتيجة وجود المواد المشعة الطبيعية المرافقة للسوائل المنتجة والمستخرجة من باطن الأرض.

المسح الميداني

وبين العلان أن منهجية البحث تقوم على اتباع المنهج الاستدلالي بواسطة المسح الميداني للمولدات، وأخذ القياسات الموقعية للملوثات (الانبعاثات) لتقدير كمية الملوثات التي تطرحها المولدات- واستخدام أنموذج رياضي، المساحة التي يمكن أن يصل إليها التلوث بناء على القياسات الموقعية المأخوذة بالقرب من محيط المولدة، وتمثيل نطاق الانبعاثات على شكل خرائط باستخدام نظم المعلومات الجغرافية.

وعن المعالجات التي تمت لتحسين نوعية الهواء ومعالجة مشكلة تلوث الهواء التي تنعكس سلباً على صحة المواطنين والمنظومة البيئية بشكل عام، ذكر العلان أن هناك لجنة مشكلة لهذه الغاية من جهات مختلفة بتاريخ 4/3/2013 بالقرار رقم 284/ق/ ناقشت خطة وطنية قابلة للتنفيذ محددة ببرنامج زمني ومادي تضمن تحسين نوعية الهواء ومتابعة تنفيذها وتتضمن مشاريع توليد الطاقة الكهربائية باستخدام الطاقات النظيفة ومشاريع تربية وتنمية الغابات وحمايتها من الحرائق/تحسين نوعية الوقود وتخفيض التلوث الناجم عن عمليات التكرير/  وتخفيف التلوث الناجم عن المنشآت الصناعية المختلفة/ وتنفيذ المساحات الخضراء داخل المدن، وتم رفعها “المصفوفة” إلى مجلس الوزراء مع طلب اعتمادها كخطة وطنية لتحسين نوعية الهواء في سورية، وقد تم اعتماد المشاريع المقترحة بتاريخ 6/11/2014 وذلك استناداً إلى توصية اللجنة الاقتصادية. رغم بعض الصعوبات ولاسيما نتيجة الوضع الراهن، تتطلع وزارة البيئة لتنفيذ المشاريع الواردة في المصفوفة كونها تحسن نوعية الهواء، وتساهم إلى حد كبير في الحد من ظاهرة التغيرات المناخية وتخفيف غازات الدفيئة، كما أن المشاريع المقترحة تساهم في دفع عجلة التنمية في القطر، وتساهم في عملية التنمية المستدامة.

المجتمع البيئي

رغم أن السنوات الطويلة في العمل البيئي لم تستطع التخفيف من حماسة د.ستالين كغدو، رئيس الجمعية السورية للوقاية من الحوادث، نحو البيئة النظيفة، إلا أنه لم يستطع إنكار حالة العجز في معالجة التدهور البيئي الخطير الذي بات الأكثر حضوراً في مختلف المجالات، ولاشك أن هذا الواقع المتردي كان شكل حافزاً عند كغدو لاتهام الجهات المعنية بالتقصير والتقاعس وعدم الفاعلية على الصعيد البيئي وفي مجال تقديم الدعم والتجاوب مع الجهود التي تقوم بها الجمعية، ولفت إلى أن نجاح العمل يحتاج إلى دعم مادي ورصد مبالغ كبيرة.

وعند سؤال د.كغدو عن إنجازات الجمعية كانت الإجابة حاضرة في عشرات الملصقات والكتيبيات البيئية والتوعوية التي لخص من خلالها دور الجمعية بالتثقيفي، خاصة مع غياب الدعم للجمعية، ثم وضع أمامنا الحفاز الذي طالب بتركيبه على السيارات كونه يستخدم لتحويل الغازات الضارة إلى غازات أقل ضرراً ويعمل بدرجة حرارة 400 درجة مئوية، حيث يثبت على أنبوب العادم، ويشترط لاستخدامه أن يكون الوقود خالياً من الرصاص وأن تكون الحرارة كافية لعمله وبعد أن أنهى شرحه عن الحفاز قال: سنوات ونحن نطالب باستخدامه ..لماذا لم يستخدم؟

 

واستعرض د.كغدو مسببات التلوث الهوائي واضعاً بعض الحلول، فحسب رأيه، من الضروري أن يكون المحول الحفاز إلزامياً لكل السيارات وليس اختيارياً وأن تكون المركبات صديقة للبيئة ويجب تحسين مواصفات الوقود المستخدم (البنزين والمازوت)مع التأكيد على أهمية الفحص الفني للمركبات (الدوري والعشوائي وفق الطرق الحديثة) والاعتماد على وسائط النقل الجماعي وتنسيق السيارات القديمة والتشجيع على استخدام أنواع الطاقة الصديقة للبيئة بدل البنزين والمازوت /الغاز والكهرباء والهيجينة/ ويجب تضافر الجهود والتنسيق مابين جهات عديدة ورصد مبالغ مالية لتنفيذ مشاريع البيئة النظيفة.

 

معلومات عامة

من المفيد أن نعلم أن ازدياد الأمراض التنفسية‏ هو النتيجة الطبيعية لارتفاع نسب الملوثات في الهواء، ولاشك أن تطور فيروس الكريب مثلاً والذي بات أكثر مقاومة للمناعة الطبيعية وللأدوية العلاجية بكل أشكالها ويقدم صورة واضحة عن طبيعة الهواء الذي نتنفسه بملوثاته الكثيرة  ويجب الانتباه إلى بعض الحقائق العلمية التي تؤكد  أن أول أكسيد الكربون يسبب الصداع وصعوبة التنفس عند نسبة 0.1٪ ما يسبب اضطراباً في عملية أكسجة الدم والوفاة بالاختناق عند نسبة 0.3٪، أما أكاسيد النتروجين فتسبب تهيجاً للجهاز التنفسي والوفاة إذا وصلت النسبة إلى 50 جزءاً في المليون بزيادة 10 ميكروغرامات من غاز ثاني أكسيد النتروجين المنبعث من عوادم السيارات في كل متر مكعب من الهواء، تقابلها زيادة في احتمال إصابة شخص بالسرطان بنسبة 8٪، والمركبات الهيدروكربونية سبب في حساسية العينين والأنف والحلق، ولبعض أنواعها تأثيرات مسرطنة للدم، كذلك مركبات الرصاص لها تأثيرات ضارة للأجنة عند الحوامل، ينجم عنها تأثير نمو جسمي وعقلي، كما تترسب في العظام والأسنان ما يسبب تأثيرات ضارة للمفاصل وترسيخ الأنسجة الرخوة حول المفاصل، والتأثير على الكبار بالعقم وزيادة حمض البول.

بالمحصلة الاعتراف بالتلوث البيئي وتعدد أشكاله وأنواعه بات الحالة الأكثر واقعية على صعيد البيئة، ولكن ما قيمة الاعتراف مع استمرار تسلل الملوثات إلى أجساد أولادنا وبشكل يهدد صحتهم وحياتهم، وقبل أن نسأل الجهات المعنية، علينا أن نسأل المواطن عن دوره ومسؤولياته لمواجهة حالات التلوث في ظل التعاطي السلبي مع حملات التوعية البيئية وعدم التقيد بالتعليمات والإرشادات، وبشكل حوّل فاعلية  النهج التوعوي الفعال الذي يخدم البيئة النظيفة إلى سراب، وجعل العمل البيئي بالنسبة له كمن يسمع جعجعة ولا يرى طحيناً.

 

بشير فرزان

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]