الثقة المفقودة و الوعود الموءودة والآمال المعقودة…بقلم: الدكتور سنان علي ديب…

 

إن وجود الثقة المتبادلة في العلاقات الإنسانية ركيزة لحسن العلاقة و وديمومتها وإنتاجيتها مهما كان نوع هذه العلاقة و لا تأتي الثقة بوصفة سحرية أو عطاء أو هبة، وإنما هي نتيجة تراكمية لبناء شخصيات ذات سلوكية شفافة واضحة ومصداقية تاريخية مجتمعية.

و هذا ينطبق كذلك على العلاقات القائمة بين الجماهير و الأحزاب و المواطنين و رجالات السلطة, فمدى تطابق أهدافها وسلوكياتها مع الصالح العام ومع مصلحة الأغلبية أكيد سيشكل هذا الأمر ثقة بهذه الإيديولوجيات و هذه الشخصيات وإن خرج البعض عن السياق المرسوم لهؤلاء ولكن تبقى الثقة موجودة انطلاقا من سلوكيات الأكثرية ولا تقتصر الثقة على هؤلاء حتى بالعمل والاقتصادي التجاري لا يمكن ديمومته إلا بوجود ثقة متبادلة بين المتعاملين و سابقاً كان ثقل العمل التجاري قائماً على الثقة بالتجار و الصناعيين و بين العملاء وصولاً لأصغر الحرف و المهن و هذه الثقة تتشرب وسعها من الأخلاقيات العامة المنتشرة بالمجتمع المتوارثة أو النامية عبر مؤسسات التنشئة بأغلبها الدينية و الأسرية و التعليمية و الإعلامية وإن سوء مخرجات هذه المنشآت كفيل بزعزعة الثقة الناجمة عن انحرافات أخلاقية، وإن هذه الانحرافات كفيلة بفرز وإخراج موارد بشرية لا تتمتع بالصفات و المواصفات المؤهلة لنيل الثقة عبر العمل وفق القوانين و الأنظمة و مهيئة  للانجرار بتيارات سلوكية براغماتية غايتها تبرر وسيلتها.

وإن نمو هذه التيارات بحرية وأريحية و من دون أي كوابح او عوائق مرتكز للتقليل من الثقة وصولاً لانعدامها وما ينجم عن هذا الانعدام و التلاشي من عرقلات و صعوبات بكافة مجالات الحياة الانسانية و الاجتماعية و الاقتصادية وما ينجم عنه من خسارات كبيرة مالية و مادية و هدر طاقات ومواد و وقت عمل وإن التغاضي عن هذه الأجواء وعدم التصدي لإصلاحها وتقويض أضرارها ينتج سلبيات متراكمة ككرة الثلج و ومن هنا نجد أنفسنا ملزمين وطنياً و أخلاقياً بتشخيص حالة اجتماعية كهذه وصلت للذروة بين الجماهير و الأيديولوجيات و الحياة السياسية بشكل عام و بين المواطنين و أغلب المسؤولين، بحيث لا يوجد أي ثقة من قبل هؤلاء المواطنين بكل سلوكيات بعض مستلمي المناصب أو رجالات الأحزاب و التشكيلات الاجتماعية، و هذه الفجوة تزداد لأن العمل على تخفيف حدتها للقضاء عليها لم يبدأ بعد وما زال معظم المسؤولين يجلسون على تاج عاجي و ينظرون بقرف و إشمئزاز للمواطن المسحوق من أفعالهم و سلوكياتهم و من المؤكد  لا بد من وجود شواذ عن هذا التوصيف ولكن الجو العام و النظرة العامة لا تحيد عن هذه الرؤية .

إن تقلص الثقة كانت من الأسباب التي أدت لتهشيم البنى الاجتماعية و صناعة تناقضات استثمرت لاحقاً لصراع دموي قاتل مدمر ولم تتقلص إلاعبر ممارسات مدروسة بدقة و قراءة دقيقة و عميقة للواقع و ومعرفة الوصفات اللازمة للتخفيف من صلابة اللحمة و الوحدة و الإنتماء عبر برامج اقتصادية و اجتماعية و سلوكية تصنع شرخاً كبيراً بين الأيدولوجيات و الشعب المؤمن بها عبر سلوكيات سابقة لامست همومه و علمن باحتياجاته و قدمت ما يسد اغلبها و عبر متابعة ومراقبة مستمرتين ومحاسبات وإن لم تصل لمرحلة الكمال , فكان لابد من سلب هذه الحقوق و العطاءات المحققة لها لصعوبة النيل من مجتمع صلب متجانس متكامل يؤمن بالوطن و يعمل لتحقيق المواطنة الكاملة ولا يمكن لتفريغ هذه الشحنات إلا من خلال شراء نفوس و تهيئة جو عام فاسد رافض لكل القيم و الأخلاق و مؤمن بالمال الأسود او الأحمر والوصول لهكذا أمر لابد من تراكمية سلوكية فاسدة عبر تعيينات لا تعتمد الكفاءة و النزاهة وإنما الولاء لمن يعين هذا الشخص الذي يصبح الحامي بديلاً عن القوانين و الأنظمة و بالتالي وجود هكذا أشخاص يقوي نبض فساد هؤلاء بحيث الحامي موجود والمحمي لا يخشى أي محاسبة أو مراقبة أو متابعة ,ومن خلال سلوكيات هؤلاء أفرغت أغلب فعالية المنظمات و الهيئات الرقابية إن كانت رقابة قوانين وأنظمة أو رقابة شعبية من اغلب وظائفها لتبقى كهياكل منفعية, استمراريتها بحكم الحاجة و ليس العمل وهذا الوجود الجثي الهامد زاد وكرس من انعدام ثقة المواطنين بهكذا شخوص هدفها الحفاظ على مكاسبها بعيداً عن القيام بالدور الذي ينبغي أن تقوم به , وازدادت الفجوة مع الاستمرارية بنفس السلوكية و الرؤية و الانشقاق التام بين هذه التشكيلات و بين المواطن الذي ساء وضعه نتيجة سلب أغلب ما حقق له من مزايا اجتماعية و اقتصادية و وهكذا كان الفساد هو السرطان الذي ضرب اغلب البنى و النواحي الاقتصادية و كان العلة التي أصابت الجسد القوي وارهقته.

و لم تكن ظاهرة الفساد مقتصرة علينا فكان هناك نهج معولم لهكذا سلوكيات الهدف العام منه استمرارية التبعية لدول الأطراف للمركز الأمريكي الأكبر و ذلك عن طريق ضرب المؤسسات و تقصير يد الحكومات وإعطاء الدور الأكبر لشخصيات رأسمالية مزدوجة النفوذ وتميل بالولاء الأكبر للدولة الداعمة هذا الفساد الذي أنقص مناعة الجسد و الدولة وهذا لا يبرر الحالة بسبب الاختلافات و خصوصيات البلدان , وجاءت الأزمة التي هو أحد مسرعاتها و مداخل ولوجها ليزداد أضعاف مضاعفة وضمن ضعف إمكانية مواجهته لتعقيدات الأزمة و للانتباه لتحقيق خطوط عامة أكبر تتمثل بوحدة الجسد و محاولة تجميع أكبر ما يمكن من شعب و كذلك فإن ضرورات البقاء و مواجهة ما مورس من إرهاب متعدد الوجوه ومنه الاقتصادي تستدعي استخدام كافة الأدوات وهذا ينطبق على تأمين الضروريات في ظل حصار مخيف وعقوبات قذرة ظالمة وفي ظل قراءة دقيقة للبنى و التشكيلات الاجتماعية القائمة ,وبالتالي لا يمكن النظر إلى اي قرار في هكذا ظروف ضمن أحادية اقتصادية أو اجتماعية فقد يكون التهريب مخرجاً لتأمين بعض المواد و قد يكون في الطرف الآخر موجه لضرب صناعات محلية في طور النشوء أو يكون سبباً في رفع الأسعار للتجارة بمواد حاجتنا لها يفوق ما يمكن أن تعود عليه بمال و وكذلك قد يكون الترفيق للبضائع حامي لها في ظل الظروف الأمنية التي كانت سائدة وقد يكون حامي للتهرب الجمركي و الضريبي وإن كان هناك بعض الثغرات فلا يبرر سبب الوجود و وكذلك زادت الانعكاسات السلبية نتيجة سياسات نقدية و سياسات اقتصادية سارت عكس التيار و يبقى ما أرادت الحكومة منها مجهراً للتقييم مع الملاحظ أن ما كانت عليه لا يتقاطع مع المصالح الاقتصادية و الأمنية.

و بالعموم كنا نقول في ندواتنا أن الظروف الحالية للبلد لا يمكن من القيام بمواجهة قوية للفساد ولحيتانه في ظل التداخلات الأزموية وضرورة تقديم الأولويات وكان البعض يظن كلامنا محاباة وحماية للفساد ولكن الموضوع هو معرفة بعمق وأهداف و خطورة الظرف الذي كان يحيط ببلدنا، ولكن الآن و بعد الصمود العجيب و الانتصارات المذهلة للمؤسسة العسكرية و للوطنيين من هذا الشعب الجبار فقد حان الوقت للخوض في الجزئيات للعودة للهدف العام وحدة وأمن وقوة البلد وهذا بحاجة لبرنامج واضح وفاعل يعيد الأمن و يقوض الفوضى و يحيط بالفساد و يقصص أوراقه وهذا ما كان عبر ما طرح من برنامج إصلاح إداري مهيء للبيئة و الهياكل للسير قدماً نحو العودة القوية للحكومة في إدارة العمليات المختلفة و لكن السير بهكذا برنامج بحاجة لأشخاص مؤمنين فاعلين وصلاحيات وإمكانات و برأيي الخاص إن الانطلاقة الصحيحة ستكون بتعيينات مناسبة من حيث الكفاءة و المهارة والوطنية وأن هذه الكفاءات يجب أن تكون حاملة للمشروع ومسؤولة عن نتائجه وتعيين هكذا حوامل يجب ان يكون من الأعلى وفق خصوصيات الإنجاح و المسؤولية و المسائلة ووجود هكذا فريق قائد لعملية الإصلاح وفق الرؤية السابقة قادر على أن يكون قطار للإصلاحات الأخرى وإن التكنوقراطية الإدارية في ظل هكذا مشروع عبر حكومة أو فريق عمل يعتمد على شخصيات إدارية عليا من نفس المؤسسة قد يكون تغيير للقبعات ولا يمكن أن يغير أو يطور و ذلك عائد لمنهجية العمل السائدة و منظومة الفساد وما سبق بحاجة بصلاحيات للمؤسسات لفرض القانون و تقويض الفوضى من أي كان في ظل اعتماد مبدأ القانون فوق الجميع وكذلك فإن إعادة روحية العمل للمنظمات و الهيئات و التي كان لها دوراً مهماً سابقاً كفيل بزيادة الانضباطية و اللحمة و تقوض دور بعض الهياكل التي يسعى الغرب لفرضها تحت مسميات مختلفة كنوع من الحضارة وهي بالأصل نوع من الأدوات و هذا لا يعني أن كل هكذا تشكيلات تابعة و لكن يبقى لرعاية الحكومة  و ضبطها للحالة ثقة في هدفها وفي أساليب عملها, وكان لما وصلت له هذه المنظمات من قلة فاعلية دوراً مهماً في تقليل الثقة نظراً للأدوار التي قامت بها و المهام التي كان ملقية على عاتقها و الحجم الشعبوي التي كانت تضمه، و قبل الأزمة لولا الهيكلية الخشبية لهذه التشكيلات لما مررت السياسات و القرارات بأسلوب الصدمة و التي صدمت البنى و هزت الكيان, و بالتالي إعادة الثقة تكون عبر العمل الجاد لتطبيق القوانين و الصلاحيات و المسؤوليات الممنوحة بالشخص أو المنظمة أو الحزب بما يحقق الأهداف المنوطة به، وأن يحس المواطن و الوطن بنتائج عملية لأفعاله ولا أن تكون هذه الأفعال لمصالح شخصية و لتضييع حقوق المواطنين والوطن بقرارات و سلوكيات محابية لقلة على حساب الجميع ,و بتشكيلات حزبية فاعلة و ليست ورقية.

وهنا لابد من تكرار القول أن ما وصلت له بعض الأحزاب لا ينكر ما قامت به من بناء بكل الأشكال الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و لكن الضغوطات التي مورست و سياسات التعيينات المتتابعة و المتراكمة  والتي كانت أهم الأمراض و محاولة تقويضها أدى لبعض الانحرافات الممكن و الضروري تجاوزها وإعادة الدور لها وفق إصلاحات داخلية و لتكون رافعة للقادمات لما تحويه من ثقل بشري و قدرات وطاقات وإن تسهيل خلق حالات مساعدة ضمن فاعلية مجتمعية أمر ضروري و مفيد للوصول لتنافسية و ديمقراطية مسقفة ببرامج اقتصادية واجتماعية متفق عليها ,وهكذا فإن قطار الإصلاح و التطوير يجب ان ينطلق بالتوازي بين كل القطاعات وإيلاء أهمية خاصة للقضاء و التعليم الذين لم يستطيعا أن يكونوا في معزل عن نظرة اليأس و عدم الثقة من قبل المواطنين وعلى العكس الغالبية العظمى تنظر لهما كمرآة للوضع القائم و تحمل سوء ما يقدمون من خدمات و ما ينجم عنهم من أفعال سوداوية زائدة للأوضاع , قيل لتشرشل سقطت لندن فسأل كيف القضاء و التعليم فقالوا بخير فقال لن تسقط لندن, قيادة الانطلاقة القوية مرهونة بضبط الفوضى و الإحاطة بالفساد ومن دون مؤسسات فاعلة بروحية متقدة لن يكون هذا المسار ,الثقة بالمؤسسات وإعادة الأدوار المستلبة لها كفيل بإعادة الثقة المتصاعدة بين المواطن وبين جالسي التيجان العاجية .

الدكتور سنان علي ديب /جمعية العلوم الاقتصادية/

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]