أطفال تحت وطأة التهجير وغسل الأدمغة في متاهات الجنوح والانحراف… أصغر ضحايا الإرهاب على سورية يستصرخون المجتمع الدولي وهيئاته الإنسانية..

 

 

الخبير السوري:

“لا أحد يمكنه مجاراتي بالصياح والنداء”.. يشير ماهر ابن العشرة أعوام بيده قاصداً بكلامه صبيين آخرين يقفان على مسافة منه؛ ويفترشان بسطة مماثلة كالتي يقف أمامها بشارع الثورة في دمشق. على البسطة بضع “دزينات” جوارب يبيعها الطفل يومياً ليعود مردودها في آخر النهار لوالده. “أي جراب بـ 50 ليرة” يكرر الصبي نداءه ليجذب انتباه بعض المارة لبضاعته ويؤكد حقيقة تفوقه الصوتي على الصبية الآخرين.

لماهر صوت جهوري فعلاً لا يماثل جسده الغض، ويفوق عمره بسنوات عديدة، وكأن الحياة وطبيعة العمل القاسية أنضجت صوت الصغير قبل جسده، فمنحته ميزة إضافية تضاف لميزات أخرى اكتسبها، فسوق العمل الذي دخله ابن العشر سنوات مبكراً يتطلب أموراً عدة كتحمل المسؤولية، والتعامل مع الناس، ومجادلتهم، ثم القدرة على إقناعهم بشراء البضاعة وحمايتها، وهي مهارات تملّكها الصبي لكن على حساب طفولة حرم منها باستثناء ساعات لعب قليلة يظفر بها مع أولاد حارته إذا نجح في تصريف بضاعته باكراً، فلا عودة للمنزل قبل إتمام العمل.

صور موجعة

ومع حرب طال أمدها تتعدد الصور الموجعة والمحزنة التي تعكس واقع طفولة مشوه يصبح فيه مشهد الأطفال الباعة في شوارع دمشق منظراً اعتيادياً ومنتشراً بكثرة يمكن لأي مدقق أو متابع رصده، وهو ما حاولنا متابعته بعرض الصورة السابقة عن الصبي ماهر، تدعمها مشاهدات أخرى كثيرة، فليس ببعيد عن وزارة العمل التي كانت بداية مقصدنا تحدثنا إلى كرم ابن الـ الأربعة عشر ربيعاً، كان الصبي يدفع متثاقلاً عربة حديدية تحتوي بداخلها على كمية من قطع الكعك. يوضح كرم عند مجاورتنا له في المشي ومحاورته أنه يقوم بإيصالها من مشغل يعمل فيه لبيع الحلويات والمعجنات إلى فرع آخر هو صالة عرض تبتعد مسافة تقارب 300 متر، لا شفاعة لشمس آب وحرارة جوه، فدفع العربة ونقل منتجاتها بين الوجهتين عمل يومي يجب أن يقوم به كرم ليناله في نهاية الأسبوع مبلغ من المال يشارك فيه بإعانة أسرته المهجّرة. لم تغير الحاجة طبيعة كرم فنالنا من اسمه نصيب، وختم حديثه القصير معنا بتقديم قطعة كعك من داخل عربته الحديدية الثقيلة مضى بعدها إلى وجهته. في زاوية الشارع صورة أخرى تلفت انتباهنا لصغيرة افترشت الأرض بعد أن تركها من تركها وأمامها بعض علب الحلوى تستدر بها عطف الآخرين ومخزون جيوبهم، وتقدم دليلاً إضافياً عن ذلك الواقع المؤلم الذي تشهده الطفولة في سورية.

تشريعات ناهية

يشير مفهوم “عمالة الأطفال” إلى كل عمل يضر بصحة الطفل، أو نموه، أو رفاهيته؛ ولا يكون من الأعمال النافعة التي تتناسب مع عمر الطفل، أو يساعد على تطوره الجسمي والعقلي والروحي والأخلاقي والاجتماعي؛ تعرّف الأستاذة رزان العمري مديرة العمل في وزارة العمل بشكل مبسط عمالة الأطفال وتوضح بعدها مجموعة تشريعات قانونية نهت عن عمل الطفل أو انتهاك طفولته، تقول: منع القانون 17 لعام 2010 تشغيل الأحداث من الذكور والإناث قبل إتمام مرحلة التعليم الأساسي ، أو إتمام الخامسة عشرة من العمر ، أيهما أكبر، كما حظر القانون تشغيل الأحداث أكثر من ست ساعات يومياً، مع بعض الاستثناءات التي أجاز معها القانون عمل الأطفال في الأعمال المنزلية اليدوية التي تنمي مهاراتهم وتوسع مداركهم كتنسيق الزهور مثلاً، وعن الغرامات للمخالفين أشارت العمري إلى أن القانون السوري وضع غرامات مالية كبيرة للمخالفين حيث فرض المشرع على كل من يخالف الأحكام السابقة غرامة مالية لا تقل عن 25000ل.س و لا تزيد عن 50000ل.س، تتعدد الغرامة بتعدد المخالفات، وتتضاعف بحق صاحب العمل المخالف في حال التكرار، في المقابل توضح العمري أن سورية صادقت بموجب المرسوم التشريعي رقم (23) لعام 2001 على اتفاقية العمل الدولية رقم (138) لعام 1973 المتعلقة بالحد الأدنى لسن الاستخدام، كما صادقت الجمهورية العربية السورية بموجب المرسوم رقم (109) لعام 2002 على اتفاقية العمل العربية رقم (18) لعام 1996 بشأن عمل الأحداث التي أقرها مؤتمر العمل العربي في دورته الثالثة و العشرين المنعقدة في عام 1996، وصادقت على اتفاقية حقوق الطفل والبروتوكولين الاختياريين الملحقين بها.

تسرب مدرسي

وفي ظل التراخي في تطبيق تلك التشريعات الناهية عن عمالة الأطفال بدليل الواقع المشاهد، تبدو ظاهرة التسرب المدرسي وجهاً آخر، ومغذياً رئيسياً لعمالة الأطفال، ودون أن نحصل على أرقام تقديرية أو تفصيلية لنسبة التسرب في الأعوام الأخيرة، وأعداد الطلاب المتخلفة دراسياً خلال الأزمة، يوضح الأستاذ حسن عاجي، مدير التعليم الأساسي، رأي وزارة التربية في ظاهرة عمالة الأطفال بأنها تستهدف بناة الوطن ومستقبله من خلال تأثيرها السلبي على النواحي الجسدية والنفسية والأخلاقية والعلمية للطفل، ومن هنا يأتي دور وزارة التربية كونها أحد المعنيين الأساسيين في حماية الطفولة وبنائها جنباً إلى جنب مع المؤسسات والهيئات الأخرى التي تعنى بالطفولة، خاصة في محاربة ظاهرة التسرب المدرسي التي تشكّل أحد الأسباب الرئيسية لعمالة الأطفال، حيث عملت الوزارة على معالجة أسبابها، وإيجاد آليات وأطر مناسبة لاستيعاب مشكلة التلاميذ المتسربين وإعادتهم، فأصدرت عدة قرارات، منها القرار رقم 32 المتضمن إحداث مرحلة التعليم الأساسي، والذي نص في تعريف هذه المرحلة بأنها مجانية وإلزامية في كافة صفوفها من الأول إلى التاسع، والقانون رقم 7 وتعليماته التنفيذية لعام 2012، حيث حدد الإطار القانوني لمتابعة التلاميذ المتسربين من 6 وحتى 15 عاماً، وفرض عقوبات بحق الأولياء المخالفين تصل لـ 15000 ل.س، والسجن لمدة 6 أشهر في حال التكرار.

إجراءات استثنائية

عاجي تحدث عن إجراءات استثنائية في ظل الظروف الحالية تبذلها وزارة التربية لمنع التسرب المدرسي، منها إيجاد آلية لمتابعة التلميذ المتسرب، والتواصل مع ولي الأمر بالتنسيق مع أمين سر المنطقة، وإعداد قوائم اسمية بأصحاب المحال والمنشآت التي تقوم بتشغيل أطفال في عمر الإلزام ليتم رفع دعوى قضائية بحقهم، وكذلك إعداد مناهج وشعب خاصة للطلاب المنقطعين، ودعم أسر التلاميذ العائدين من التسرب عن طريق صندوق التكافل الاجتماعي، مؤكداً: نسهل قبول الطلاب الوافدين من المناطق الساخنة، ونسجلهم في المدارس مباشرة بعد إجراء سبر معلومات، وكذلك صدرت تعليمات بعدم التشدد باللباس المدرسي، والاقتصاد في القرطاسية، ونعمل على تعيين مرشدين اجتماعيين وأخصائيين نفسيين، كما نؤكد اتباع المناهج التربوية الحديثة، ويختم عاجي: ظاهرة التسرب ظاهرة قديمة عادت لتتفاقم نتيجة الظروف الراهنة، وهي أحد أهم أسباب عمالة الأطفال، لذا يجب تطوير القوانين الناظمة لعمل الأطفال من خلال العقوبات، وآليات المراقبة الفعالة، والعمل على الاستفادة من التجارب العالمية بهذا الخصوص، وتوحيد الجهود المحلية والحكومية.

تأثيرات صحية

«عمالة الأطفال تخلق جيلاً مشوهاً من الناحية الجسدية والعقلية والنفسية»، رغم قساوة التعبير، لا يجد الدكتور أكرم الريشة، مستشار وزير العمل، والاختصاصي في الصحة والأمراض المهنية، بديلاً عنه حين يتحدث عن التأثيرات الصحية لعمالة الأطفال وسلبياتها على بنية المجتمع، موضحاً مجموعة حقائق أهمها أن معظم الأطفال العاملين يؤدون أعمالاً ومهام تتعدى في كثير من الأحيان قدراتهم الجسدية، مثل حمل البضائع الثقيلة، أو تفريغها، أو تداول الآلات والمعدات، وهذا الأمر يؤدي إلى مجموعة تأثيرات صحية وجسدية يمكن ملاحظتها عليهم، حيث يتمتعون باتساع مساحة الجلد المعرض للمخاطر البيئية والمهنية لأجسادهم مقارنة بالكبار، وبالتالي زيادة احتمال امتصاص المركبات والمواد الكيماوية والبيولوجية (الحيوية) المختلفة، وبما أنهم في مرحلة نمو وتكوين سريع، فزيادة احتمال تأثر الخلايا والأنسجة والأعضاء الهامة بالمخاطر المحيطة وارد أيضاً، كما أن زيادة سرعة وكمية معدلات الدورة الدموية تعطى فرصاً متزايدة لوصول المركبات والمواد الكيماوية والحيوية للأنسجة والأعضاء المختلفة.. الريشة أضاف: الأطفال يتنفسون بمعدلات أكبر من التي يتنفسها الكبار، نظراً لاحتياجهم للأوكسجين اللازم لنشاطهم الزائد، وبالتالي زيادة احتمال استنشاقهم للسموم المختلفة، كما أن معدلات الاستقلاب المرتفعة (التمثيل الغذائي) لديهم تزيد احتمال امتصاص السموم المختلفة، ووصولها للأعضاء والأنسجة الحيوية، ويختم: الأطفال يحتاجون لأوقات راحة أو نوم متزايدة بمقارنتهم بالكبار البالغين، ما يزيد من اضطرابهم إذا حيل بينهم وبين الراحة المطلوبة لأجسادهم، وبالتالي يعرضهم لتأثيرات نفسية وسلوكية متعددة، وأمام كل هذا يجب عدم التهاون في عمالة الأطفال، والنظر إليها كجريمة بحق صحة الطفل.

أثمان باهظة

«يدفع أطفال سورية ثمناً باهظاً لفشل العالم في وضع نهاية للحرب»، تتحدث جولييت توما، مسؤولة الاتصالات والإعلام التخصصي في منظمة اليونيسيف العالمية المعنية بشؤون الأطفال عبر العالم، موضحة أن عمالة الأطفال كانت موجودة كظاهرة قبل الحرب على سورية، إلا أن الأزمة الإنسانية سببت تفاقم المشكلة، وتورط عدد كبير من الأولاد والبنات في أعمال خطرة على هذه الفئة العمرية، والتي تؤثر عليهم نفسياً وجسدياً واجتماعياً، وتحد من تمتعهم بحقهم الأساسي في التعليم أو تحرمهم منه كلياً. أما في الحالات القصوى مثل تجنيد الأطفال أو استغلالهم جنسياً، يمكن أن يمثل عمل الأطفال انتهاكاً خطيراً لحقوق الطفل. وتتحدث ممثلة المنظمة العالمية عن أسوأ أشكال عمالة الأطفال في سورية الذي يتمثل بتعرضهم للتجنيد والاستخدام من قبل المجموعات المسلحة، حيث تصبح مشاركة الأطفال في القتال أمراً عادياً، وحسب دراسة تحققت منها الأمم المتحدة هناك 287 حالة تجنيد للأطفال عام 2014 في سورية، منهم أطفال بسن 8 سنوات، ومن الجدير بالذكر أن الأرقام الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك بكثير، وتضيف توما: 77 % من هذه الحالات هم أطفال مسلحون، أو أنهم استخدموا لأداء أدوار قتالية. حيث يشارك الأطفال في سورية في عدد من الأعمال ابتداء من أعمال الحراسة على نقاط التفتيش إلى العمل على الخطوط الأمامية للاعتناء بالجرحى أو تصوير المعارك لأغراض الدعاية وحتى المشاركة في الاقتتال الفاعل كانتحاريين.

وجوه أخرى لعمالة الأطفال القاسية داخل سورية تتحدث عنها توما بالقول: يعد انخراط الأطفال في الأعمال الخطرة مصدراً عالياً للقلق، خاصة في مناطق مثل محافظة دير الزور شرق سورية، حيث تفيد تقارير أن معظم الأطفال الذين لا يذهبون للمدرسة يعملون في تصفية النفط الخام وتشغيل المولدات، وتختم بتأكيد متابعة المنظمة ملف عمالة الأطفال في سورية وكل دول العالم، مشيرة إلى تقرير أعدته المنظمة مؤخراً، عنوانه كيف تدفع الأزمة السورية بالمزيد من الأطفال إلى سوق العمل، يوثق كل الانتهاكات التي تتعرض لها الطفولة السورية.

الطفولة أولوية

منذ الاستقلال الذي حققته سورية وحتى اليوم كانت قضية الأطفال والاهتمام بشؤونهم على رأس أولويات القيادة السياسية والحكومات المتعاقبة. هذا ما يؤكده الرفيق إبراهيم عبيدو نائب رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال، مشدداً على ضرورة متابعة القوانين الخاصة بعمالة الأطفال من قبل السلطة التنفيذية المكلفة بتنفيذ كل الإجراءات على أرض الواقع وعدم التهاون فيها، ويضيف: منذ تأسيس الحركة النقابة في سورية عام 1938 تم الإعلان عن عدد كبير من الأنشطة العمالية والاجتماعية المكرسة للطفولة، حيث تم إنشاء نوادي الأطفال وأبناء العمال،

وقد صادقت سورية على جميع الاتفاقيات والعهود الدولية والعربية في هذا المجال، وكان آخرها الاتفاقية الدولية الخاصة بمكافحة أسوأ أشكال عمل الأطفال، وتدرس قيادة الاتحاد العام لنقابة العمال بالتعاون مع الحكومة وأصحاب الأعمال إمكانية التصديق على مزيد من التوصيات والاتفاقيات الإقليمية والدولية.

عبيدو أكمل: في وقتنا الراهن تشكل مسألة حماية الطفولة الهم الأكبر للحركة النقابية، خاصة أنه يجري استغلال الطفولة في أخطر وأقذر العمليات الإرهابية المسلحة، والتقارير والإحصائيات المحلية والدولية تشهد بذلك.

مسؤولية دولية

وفي هذا الصدد يوضح عبيدو المسؤولية الدولية التي تقع على عاتق دول العالم والمعنيين بالطفولة متحدثاً: الحركة النقابية في سورية تستصرخ ضمائر جميع العمال والنقابيين والأحرار في المنطقة والعالم من أجل الضغط على الحكومات والأنظمة المعادية من أجل وقف تدخلها السافر في الشؤون الداخلية السورية وفي قضية الإساءة للطفولة، ويجب على المجتمع الدولي، وخاصة منظمة حماية الطفولة، الضغط بجميع الوسائل المتاحة على قادة وزعماء المنظمات الإرهابية ومموليهم من أجل وقف التصرفات غير المسؤولة بحق الأطفال، كما وجه عبيدو الاتهام بالتقصير للمنظمات القومية والإقليمية والدولية وفي مقدمتها منظمة العمل العربية التي أغفلت بضغط من الحكومات المعادية لسورية قضية حماية الأطفال السوريين من الاستغلال، وختم عبيدو بالقول: إن الاتحاد العام لنقابات العمال يؤكد على التعاون مع جميع المنظمات الشعبية والهيئات والجهات المسؤولة في الدولة وخاصة منظمة الشبيبة والطلبة والمرأة والطلائع ووزارات العمل والشوؤن الاجتماعية والإدارة المحلية وجميع الجهات المسؤولة عن مكافحة التسول والتشرد ورعاية الفتيات والأحداث القاصرات، وإيلاء مزيد من الاهتمام لدعم الإدارات المسؤولة عن هذه القضية .

حتى نحقق السلام

يقول الزعيم الروحي للهند المهاتما غاندي “إذا أردنا أن نحقق السلام الحقيقي في العالم، فعلينا أن نبدأ بتعليم الأطفال”، فالأطفال هم ركيزة البناء الأهم لأي مجتمع، ونحن في المقابل إذا أردنا أن نحقق السلام الحقيقي في سورية علينا الاهتمام بالطفولة، فهي المرحلة التي تنمو فيها كل خلية من خلايا جسم الطفل وكل حاسة من حواسه. وبالتالي علينا أن نتصرف “اليوم” وألا نترك الأمور إلى “الغد”، والتوجه لمزيد من التشريعات والقوانين الصارمة حول عمالة الأطفال والانتهاكات التي يتعرضون لها، فأطفال اليوم هم بكل يوم بناة المستقبل، لكن بعلمهم أولاً ثم بعملهم حين يكتمل نموهم وتنضج أجسادهم وعقولهم ليتحقق السلام.

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]