إدانــات تلاحــق اســتثمارات شــخصية تحــت غطــاء المصلحــة العامــة في الوحدات الإدارية

 

يثير العراك والتشابك الكلامي الذي شكّل خاتمة لأعمال مجلس محافظة ريف دمشق، كما سمعنا العديد من الإشارات الاستفهامية حول مدى حضور المصلحة العامة في هذه الخلافات التي تبدأ بالمشادات الكلامية والاتهامات بين أعضاء المجالس على اختلاف مستوياتها، فتزداد حماوة المواجهة تصاعدياً لتنتهي أحياناً بتبادل اللكمات التي تسقط العمل المؤسساتي من على منصة القوانين الناظمة إلى أفخاخ الخلافات الشخصية، ومحاولات التشفي والانتقام، وكشف المستور لتسجيل نقاط إضافية في سجل الإدانة الوظيفية.

وصحيح أن هناك جهوداً مبذولة من قبل وزارة الإدارة المحلية لإعادة بوصلة العمل في الكثير من المجالس والوحدات الإدارية إلى مسارها الصحيح، وسمتها المتمثل بمصلحة المواطن عبر جملة من القرارات المتخذة بحق المخالفين في مجالس المدن، وغيرها من الوحدات الإدارية، وتركيزها على تحسين الأداء في القطاع الخدمي، إلّا أن ذلك لم يفلح إلى الآن في استرداد ثقة غالبية الناس بهذه المجالس، ولم يلغ حقيقة الخلل الكبير الموجود في عملها الذي تحوّل بالممارسة إلى عمل استثماري اقتصادي يسهم في تضخيم الأرصدة الشخصية، وبشكل علني دون أن يكون هناك أي رقابة، بل على العكس هناك الكثير من الأحاديث التي يتناولها الشارع عن شراكات وشبكات عمل عنكبوتية تجمع ما بين مفاصل تسلسلية عديدة في العمل بقصد الانتفاع، أو التغطية المأجورة على مخالفات وتجاوزات المجالس على امتداد مساحات العمل الإداري في كل المحافظات، فهل استطاعت القرارات استئصال الأورام الفاسدة التي تعاني منها منظومة عمل الإدارة المحلية، أم بقيت على حالها تلاحقها الشبهات، وترفع في وجوه أعضائها أصابع الاتهام التي تتعدد مسؤولياتها ما بين التقاعس والإهمال في العمل، وضعف الأداء لتصل إلى حكم الفساد بكل مجالاته؟.

حكم الشارع

(مابيشبعوا) هذه العبارة كانت حاضرة على لسان كل من سألناه عن الوحدات الإدارية، وتحديداً البلديات التي باتت في نظر الكثيرين مستثمرة لصالح بعض الأشخاص، ولم يخف الناس أيضاً استياءهم من الأحاديث والتصريحات المشبعة بالمتابعة الدائمة لعمل الوحدات الإدارية، وبأخبار محاسبة المقصرين والفاسدين في هذه المنظومة التي تتراكم الأخطاء في سجلات عمل المئات منها، وتضمحل المعالجات، والحلول المتخذه بحقها والتي تعترضها الكثير من التقاطعات التنفيذية بما يخمد فاعليتها، ويحيل قدراتها الإصلاحية إلى التقاعد المبكر جداً بشكل يعيق إحداث تغيير حقيقي في منظومة العمل الإداري والفكر المؤسساتي الذي يديرها في الوقت الذي يبقى فيه الأداء على حاله، وطبعاً لسنا بصدد تبني طعن الشارع في سلامة ما تم لجهة إعادة تشكيل عدد من المكاتب التنفيذية، لأنها لم تكن على المستوى المطلوب لممارسة مهامها الموكولة إليها بموجب القانون، أو التقليل من شأن قرارات تعيين مكاتب تنفيذية مؤقتة لعدد من مجالس الوحدات الإدارية التي لم تتمكن من ممارسة اختصاصاتها و القرارات المتعلقة بإعفاء عدد من رؤساء المجالس المحلية الذين لم يتحل بالأهلية والكفاءة لممارسة أعمالهم، ولكننا نحاول أن نستجلب الثقة والتوازن لتلك المعادلة التي نرصد من خلالها عمل حوالي  1361وحدة إدارية(محافظة، مدينة، بلدة، بلدية) وحوالي 50 قرار معالجة تقريباً، تم اتخاذه بحقها على امتداد فترة زمنية طويلة، ولاشك أن تعميم حكم الإدانة الذي يتداوله الناس بحق الواقع الخدمي والأداء المشبوه والضعيف للوحدات الإدارية دون الأخذ بالأسباب المخففة المتعلقة بتداعيات الأزمة قد يكون خارج الموضوعية، لذلك حاولنا قدر المستطاع الإحاطة بآراء الجهات المعنية، والتعرف على وجهة نظرها حيال ما نقلناه لها من أحكام ومواقف الناس من الوحدات الإدارية.

اختيار كوادرها

لم تقدّم النصف ساعة التي جمعتنا مع بسام القرفيصي مدير مديرية المجالس المحلية في وزارة الإدارة المحلية أية إضافات على الإجابات التي أرسلها إلينا عبر الفاكس، وهذا ما كان، وبصراحة، مخيباً لتوقعاتنا، فقد كنا نأمل الحصول على بعض الإجابات الأكثر وضوحاً وعمقاً بدلاً من مناورة كلامية متخمة بالدبلوماسية اللاعبة في ميدان الأزمة والعموميات التي أيدتها مديرة المكتب الصحفي تحت عنوان أن مجمل المواضيع المطروحة مازالت في طور الدراسة والمتابعة.

 

وبغض النظر عن تفاصيل الجلسة، إلا أن ماحصلنا عليه كما فهمنا يدخل ضمن الصلاحيات الممنوحة التي أجازت لمدير المجالس المحلية بالحديث عما تضمنه قانون الإدارة المحلية بموجب المرسوم رقم 107 تاريخ 23/8/2011 من تطور نوعي في عمل مجالس الوحدات الإدارية (المحافظة -المدينة-البلدة-البلدية) ومكاتبها التنفيذية والذي تمثل في إضافة دور تنموي إلى جانب الدور التقليدي (الخدمي) الذي كانت تمارسه مجالس الوحدات الإدارية ومكاتبها التنفيذية في ظل قانون الإدارة المحلية السابق، حيث تجلى التركيز على الدور التنموي من خلال مانصت عليه المواد المتضمنة أهداف القانون (وضع خطط تنموية وتنمية الموارد لتحسين المستوى المعيشي للمواطنين وتطوير فرص اقتصادية وتنموية وإيجاد حالة من التكامل بين الدور الخدمي والدور التنموي كما حددت مواد أخرى في القانون آلية القيام بهذا الدور من قبل المجالس المحلية ومكاتبها التنفيذية، وورد ضمن اختصاصات مجلس المحافظة تكليف جهات مختصة في الأجهزة المحلية والمركزية (وإمكانية الاستعانة ببيوت خبرة محلية أو دولية) لوضع رؤية تنموية مستقبلية(اقتصادية اجتماعية وخدمية) وترجمتها إلى خطط طويلة الأجل تضمن الانتقال إلى مراحل تنموية متقدمة اقتصادياً واجتماعياً ومؤسسياً وثقافياً، وطبعاً محاولتنا استخلاص بعض الأمثلة الحية على هذا الكلام باءت بالفشل والحديث بقي في إطار(هذا مالدينا).

آليات الضبط

بما يتعلق بآلية اختيار الكوادر والمجالس وكيفية ضبطها والإجراءات المتخذة أو التي ستتخذ بحق المخالفين فيها وخاصة البلديات لم يتردد القرفيصي في التأكيد على أن انتخاب أعضاء المجالس المحلية هو حق وواجب للمقترعين من المواطنين في الوحدات الإدارية وسيخضع هؤلاء بعد انتخابهم لأحكام قانون الإدارة المحلية الذي أولى( من خلال مواده) عناية خاصة لمراقبة عمل أعضاء المجالس المحلية ومكاتبها التنفيذية وخاصة في بابه التاسع الذي حمل عنوان(الرقابة وإنهاء العضوية) وقد صدرت عدة مراسيم بحل عدد من المجالس المحلية بسبب فسادها أو تقصيرها أو ضعف أدائها، كما تمت إعادة تشكيل عدد من المكاتب التنفيذية لأنها لم تكن على المستوى المطلوب لممارسة مهامها الموكلة إليها بموجب القانون، كما صدرت عدة قرارات بتعيين مكاتب تنفيذية مؤقتة لعدد من مجالس الوحدات الإدارية التي لم تتمكن من ممارسة اختصاصاتها، بالإضافة إلى إصدار عدة قرارات بإعفاء عدد من رؤساء المجالس المحلية الذين لم يتحلوا بالأهلية والكفاءة لممارسة أعمالهم. وكالعادة ختم مدير المجالس فاكس الإجابات بالتأكيد  على أن  وزارة الإدارة المحلية والبيئة ستبقى من خلال مديرياتها المعنية ترصد عمل المجالس المحلية ومكاتبها التنفيذية، وستبادر كعادتها لمحاسبة المقصر والمخالف، وتقديم كل الدعم الممكن للمجالس التي تقوم بما يمليه عليها واجبها تجاه المواطنين وعند مطالبتنا القرفيصي بإحصائيات دقيقة حول عدد المجالس المتخذ بحقها قرارات المحاسبة لمقارنتها بعدد المجالس والوحدات الإدارية لم نجد الآذان الصاغية، وتم إنهاء النقاش بعبارة ليس لدينا معلومات دقيقة.

صورة إيجابية

البحث في واقع الوحدات الإدارية والمجالس المحلية لايكتمل دون التواصل مع بعض كوادرها، حيث قادنا البحث إلى مكتب عادل العلبي، رئيس مجلس محافظة دمشق الذي تجاوب معنا مباشرة وقدم لنا صورة إيجابية عن مجلس دمشق ودوره الرقابي والتنفيذي من خلال اللجان المشكلة للإشراف على تنفيذ الكثير من القضايا كتوزيع المحروقات والإشراف على الأفران وغيرها من المسائل التي لها تداعيات مباشرة على حياة الناس المعيشية، هذا عدا عن الدور الكبير في إنجاز المصالحات والموافقة على الخطة الخدمية ومراقبة الأداء، ووصف العلبي العلاقة بين أعضاء المجلس بالمترابطة وبالأسرة الواحدة، وهم أعضاء هيئة عامة لشركة شام القابضة، نافياً وجود أي تكتلات أو انقسامات، وواضعاً عمل الجميع في مسار خدمة الوطن والمواطن.

 

ولخص العلبي صلاحيات المجلس بحق أية قضية تثار حول أي خلل في عمل أعضاء المجلس بالسؤال، ثم الاستجواب، وحجب ثقة، ولا شك في أنه خلال اللقاء كانت هناك الكثير من القضايا التي لم نوفق في إدخالها ضمن الحوار بسبب الظروف، حسب كلام العلبي.

وفي المقابل كلام صالح بكرو رئيس مجلس محافظة ريف دمشق لم يختلف كثيراً من حيث المضمون عن كلام العلبي، فقد وضع غالبية مشاكل المجالس والوحدات الإدارية في خانة عدم توفر الإيرادات اللازمة لتحسين الواقع الخدمي، وعدم الانسجام، وغياب بعض الأعضاء لأسباب مختلفة، لكنها جميعاً تخضع لضوابط قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011.

وقبل أن يخوض بكرو في الخطوات المتخذة لتطوير العمل، أراد التأكيد على أن المشادات التي تحصل خلال المجلس بين الأعضاء تكون من أجل المصلحة العامة دون أن ينفي تداخل المصالح الشخصية أحياناً، وبعد ذلك عاد بكرو ليبيّن لنا أن التوجه الحالي يسير في مسار تأهيل ورفع قدرات الوحدات الإدارية التنموية، وفق مواد قانون الإدارة المحلية، واعتماد آلية استثمارية، وقيّم رئيس مجلس محافظة ريف دمشق عمل الوحدات الإدارية بالمقبول، رغم أن الطموح أكبر من ذلك.

وبالمحصلة القواسم المشتركة بين حديثي العلبي وبكرو تتلخص في الابتعاد عن التفاصيل التي كنا نلاحقها لجهة فساد البعض، وطغيان المصلحة الشخصية على المصلحة العامة، حسب معطيات الواقع الذي نستشهد به على حال المجالس المختلفة، وعلى ضعف أدائها.

كلام آخر

الدكتور عمار يوسف، الخبير العقاري والاقتصادي، ركّز في حديثه معنا على فساد الوحدات الإدارية، وخاصة لجهة مخالفات البناء التي باتت أكثر حضوراً في عمل البلديات، ولكن د. يوسف لم يحمّل مسؤولية ذلك لرؤساء البلديات، وأعضاء المجالس فقط، بل اتهم جهات ذات نفوذ تعمل على تمرير مصالحها عبر سطوتها على قرارات البلديات، وقدّر د. يوسف قيمة الفساد الناتجة عن مخالفات البناء في البلديات بـ 10 مليارات ل.س، وخاصة بعد صدور المرسوم 40 الخاص بالبناء، وتسوية المخالفات، وأعاد تراجع الواقع الخدمي إلى ضعف التمويل على مختلف المستويات، وهذا يتطلب العمل على تأمين التمويل الذاتي للبلديات، والمجالس المختلفة.

“تركنا بحالنا”

تحفظ أعضاء المجالس الذين تواصلنا معهم على ذكر أسمائهم الصريحة في تحقيقنا، وتمسك البعض بعبارة (تركنا بحالنا)، لم يترك لنا سوى خيار تجاهل كلامهم الذي اتصف بالعمومية، والتجييش المعبأ بالمصالح الشخصية، حيث كان كل واحد يبرىء نفسه، ويلقي بالاتهام على غيره، وخاصة رؤساء البلديات الذين يتفردون بالقرار، وعملهم لتحقيق المنفعة الذاتية، وعقد الصفقات، وتمرير المخالفات، دون أن يتطرق هؤلاء لدورهم في ذلك، هذا عدا عن إمعان بعض أعضاء المجالس في الحديث عن الوطنية، والالتزام بمصالح الناس.

ولا شك في أن جزءاً كبيراً من حديثهم عن رؤساء البلديات حقيقي وواضح للجميع، ولكن ذلك لا يبرىء أعضاء المجالس من مشاركتهم المباشرة في “الاغتناء” من خلال استغلال الصلاحيات الممنوحة لهم، والدليل على أن الكثير من المخالفات المثارة بين أعضاء المجالس تكون على المحاصصة، وتقاسم المكاسب التي يدفع ضريبتها الناس الذين خبروا تماماً الأمراض التي تعاني منها البلديات، والمجالس المحلية، سواء التي أفرزتها الأمراض الانتخابية المتمثّلة بالتكتلات العائلية والعشائرية، وغيرها، أو عن طريق التعيينات التي أفرزت مجالس ذات تبعية لأصحاب النفوذ، وتعمل بشكل غير مؤسساتي، وفي كلتا الحالتين كانت النتيجة واحدة، فقد وصل أشخاص غير جديرين بالثقة الممنوحة لهم، ولا يملكون الكفاءة والقدرة على العمل، ولذلك فإن جميع الأساليب ستكون فاشلة في حال عدم المتابعة والمحاسبة المباشرة للمخالفين والمرتكبين، ولو تم تفعيل مبدأ (من أين لك هذا بشكل فعلي) على صعيد البلديات والمجالس المحلية، لكان هناك أكثر من 90% من هذه المجالس في قفص الاتهام، ومن هنا تبدأ خطوة الألف ميل، إن كانت هناك نوايا جادة، وإرادة حقيقية لإصلاح هذه المنظومة.

 

بشير فرزان – البعث

 

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]