مواطنون يحلّون اللغز الذي أرّق الحكومات السورية..

 

منذ عشر سنوات والجهات المعنية، تروّج، وتشجّع على مشاريع صغيرة متناهية الصغر في كل مناسبة، وعبر نشاطاتها الإعلامية، وقد لا يكون آخرها إصدار وزارة الاقتصاد قراراً لتحديد المعايير الدنيا والقصوى لماهية هذه المشاريع، وهي إحدى العقبات التي وقفت طويلاً في وجه أصحابها ليضمنوا الدعم اللازم، وينطلقوا في مشاريعهم إلى طريق النجاح، وليخال لكل من يتابع هذه التصريحات أن واقع المشاريع ازدهر، وامتد أفقياً ليشمل مساحات الوطن كافة، في حين ضمن المتابعة والبحث الميداني عن انتشار رقعة المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر على أرض الواقع، نجد أن الجهات المعنية أخفقت إلى الآن في ترجمة شعاراتها البراقة عبر مكوناتها الإدارية التي تدور في فلك الدراسات النظرية والاجتماعات الشكلية، عاجزة عن مد يد الدعم الحقيقي لمن يحتاجه، فهيئة دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، لا تزال تبحث في سبل التشبيك مع الجهات التمويلية، في حين وزارة الاقتصاد تفتقد لحاضنات الأعمال التي طالما تغنت بإحداثها، ولا تزال قيد الدراسة، فهل مازلنا عاجزين عن إيجاد استراتيجية حقيقية لدعم هذه المشاريع، أم أن التعثر والتأخير في إنجاز ما يتم الإعلان عنه يخفي تقاعس وغياب الحس الوطني؟.

تجارب رائدة

قد تكون البداية من استعراض جملة من تجارب المواطنين الذين تفوقوا على الحكومة في إنجاز مشاريعهم الصغيرة بامتلاكهم إرادة العمل– وإن كانت مشاريعهم بإمكانيات ضئيلة وظروف قاسية – إلّا أنها ثبتت مواقعهم في سوق العمل، وبجولة سريعة في أحياء ريف دمشق رأينا معظم الأقبية التي تحولت إلى ورشات عمل تعمل ليلاً ونهاراً، وتحدت الخسائر التي أصابتهم في الأزمة، كالنجار “أبو علي الميداني” الذي خسر ورشته في عربين، وانتقل مع أسرته إلى جرمانا، وبدأ من الصفر في إعداد ورشته، واستعادة بعض عماله الخبراء، حيث بيّن خسارته لمعدات ضخمة وحديثة، وهو اليوم يعمل بمنشار بدائي وقياس يدوي، لكنه بدأ بالإنتاج والبيع، في حين تحولت معظم المنازل إلى ورشات للإنتاج المنزلي، بهمة نساء قادرات على العطاء متحدين ظروفاً اقتصادية قاهرة، وامتلكن القدرة على البدء بمشاريعهن الصغيرة، كصنع المربيات، والمونة، وتقطيع، وتجفيف الخضار، وصنع الخبز، إلى ورشات الخياطة والتطريز، بل أصبحن خبيرات في الترويج عن منتجاتهن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبين المجتمع المحيط بهن، وإيجاد أسواق تصريف للبضاعة، قد يكون أكثرها على ناصية الطرق، وهنا بمقارنة بسيطة نرى أن الفكرة المقترنة بالإرادة تتحوّل إلى عمل مبدع وحقيقي، بينما تبقى الجهات الحكومية في خندق التنظير.

اهتمام ولكن..

وفي إطار العمل على معالجة أحد أهم العقبات في وجه تنمية واقع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، خرجت وزارة الاقتصاد بقرار يقضي بتحديد هوية وماهية هذه المشاريع عبر تعريف موحد، ووضعت المعايير الدنيا والقصوى لها، ورغم تأكيد وزير الاقتصاد الدكتور سامر الخليل، على هامش أحد الاجتماعات، على حرص الوزارة في العمل على تهيئة المكونات الأساسية للنهوض بواقع المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر، كهيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وهيئة دعم تنمية الإنتاج المحلي والصادرات، التي سيكون لها دور تمويلي، وجهات أخرى مثل مديرية حماية المستهلك، ومؤسسة ضمان مخاطر القروض، والتي هي قيد الإقلاع بعد إعداد النظام الداخلي لها، بالإضافة إلى قيام الوزارة بإجراء مسوحات إحصائية شاملة في معظم المحافظات، ومازال العمل جارياً بحسب الدكتور الخليل لإنهاء قاعدة بيانات تنظم عمل وواقع هذا القطاع، حيث أنهت الوزارة مسوحات في محافظتي اللاذقية وطرطوس، بخصوص قطاع الإنتاج الزراعي والحيواني وفي محافظتي دمشق وريفها بخصوص قطاع المفروشات الذي تحول بمعظمه إلى ورش صغيرة متناثرة بعد تضررها جراء الأزمة، إلا أن القرارات النظرية التي تصدر عن وزارة الاقتصاد لم نشهد لها ترجمة فعلية وأثراً إيجابياً على سير تنمية المشروعات، ليستحضرنا السؤال عن الحلقة المفقودة في آليات التنفيذ لتشكل واقعاً ملموساً؟!.

برامج التطوير

هيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة هي الجهة المعنية بالدرجة الأولى بوضع سياسات وبرامج لتطوير واقع المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي لاتزال بدورها في خندق الدراسات النظرية، حيث بيّنت لنا مديرة الهيئة سلاف العقيلي أن الهيئة تعمل على التنسيق بين الجهات كافة، سواء كانت جهات عامة، أو خاصة، أو أهلية، ووضع برامج تنفيذية لها تحقق رؤية تنموية لهذه المشروعات، كما أعدت الهيئة دليلاً تعريفياً مرفقاً يشرح تفاصيل وإيضاحات لكيفية استخدام هذه المعايير بكافة القطاعات الخدمية، والزراعية، والصناعية، وهو قابل للتغيير بمرور ثلاث سنوات تتم مراجعته بشكل دوري بالتنسيق مع كافة الجهات، والهيئة تعمل على إيجاد رقم إحصائي لواقع المشروعات الصغيرة والمتوسطة بهدف بناء قاعدة بيانات إحصائية، ووضع مؤشرات لقياس مدى تطور القطاع، فقد باشرت الهيئة مع مكتب الإحصاء بعملية وضع التفاصيل الفنية، وقد تم إنجاز مسودة النظام المالي، وخلال أيام من تاريخه ستقره اللجنة، والتعداد يشمل خمس محافظات هي: دمشق، وريفها، واللاذقية، وطرطوس، والسويداء، ويعمل على مسودة الاستبيان والاستمارة التي سوف تُعتمد للإحصاء، وعلّقت العقيلي على ما تم العمل عليه في محافظتي اللاذقية وطرطوس بأنه تقييم للمشروعات وليس إحصاء، وهذه النتائج ستكون من خلال بناء مؤشرات، وتشكّل بداية لمدخلات لعمل دراسات، وتحليل هذه الإحصاءات، وتقييم وضع القطاع الزراعي والحيواني هدف إلى تحديد العقبات، ودراسة الوضع من كافة الجوانب للعمل على كيفية مساعدة القطاع الزراعي، والنباتي، والحيواني، وتمت تعبئة 9000 استمارة تم إدخالها، وتتم عملية التدقيق والمراجعة تمهيداً للتقرير النهائي والتوصيات، وأكدت أن العمل يتم بالتنسيق مع وزارة الزراعة، ومركز السياسات الزراعية، وتقييم صناعة المفروشات في دمشق وريفها، أيضاً تمت زيارات ميدانية للمنشآت، حيث زارت الهيئة حوالي 170 منشأة، وتمت دراسة وضعها لتذليل العقبات التي تواجه هذا القطاع، كنقص في الطاقة: “كهرباء- مازوت”، وفقدان اليد العاملة الماهرة خلال فترة الأزمة، وصعوبة الحصول على المواد الأولية كالأخشاب.

وبررت العقيلي التأخير في إنشاء حاضنات الأعمال بحاجتها إلى إمكانيات مادية وبشرية كبيرة، وهذا الأمر يستلزم وقتاً طويلاً لدراسة وتنفيذ المشروع، بالإضافة إلى افتقاد الهيئة لذراع تمويلي مباشر يكمل عملها، ويموّل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ولكنها تعمل على التشبيك مع الجهات التمويلية وفق اتفاقيات مشتركة، وحتى الآن لم يتم التشبيك مع أية جهة، فهل تبقى الجهات المعنية تفكر وتحاول دون الوصول إلى واقع ملموس؟!.

آلية الدعم

الحلقة المفقودة بحسب رأي الدكتور عابد فضلية، خبير اقتصادي، تكمن في غياب استراتيجيات تنظم آليات دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، والخروج من فكرة الدعم بالتمويل فقط، بل العمل على إيجاد وتوفير جميع الشروط التي من شأنها العمل على إنجاح فكرة المشاريع الصغيرة أو الناشئة، ليكون الدعم بحسب فضلية عبر دراسة ماهية المشروع وتأمين مستلزمات الإنتاج إما بالاستيراد مثلاً وتوفيرها في السوق بأسعار مشجعة بغية وصولها لمن يحتاجها، أو عبر عقود مبرمة مع جهات عامة لتوفر تسهيلات أو خدمات تقدم لأصحاب المشاريع، كآليات النقل الكبيرة أو الموافقات والتراخيص، وقد يكون أهمها إيجاد أسواق لتصريف منتجات المشاريع.

وبالعودة إلى الدعم عبر منح القروض والتسليف، يرى د.فضلية أن آليات المنح غير واضحة وعائمة في كثير من الأحيان، ففي عام 2012 تم تأسيس صندوق لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة برأس مال 5 مليارات ليرة سورية، ولكنه لم يتم جمع المال بسبب غياب ضوابط المنح والتسليف، مشيراً فضلية إلى ضرورة تفعيل عمل هيئة تنمية المشروعات عبر وضعها لخطة ممنهجة تشمل دراسة المشروع وتحديد ماهية الدعم المستحق بوسائله وآلياته المختلفة، بالإضافة إلى إيجاد صيغة توافقية لضمان عدم تعقيد آليات التمويل من قبل المصارف.

إعفاءات ضريبية

وافق الدكتور أيمن ديوب “خبير اقتصادي” رأي الدكتور عابد فضلية بأن الدعم المالي لا يكفي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، مؤكداً على وجود استراتيجية وطنية لتنميتها كالإعفاءات الضريبية وتوسيع رقعة الاستثمار وتفعيل دور المؤسسات المدنية التي لها دور كبير في تفعيل وإنجاح هذه المشروعات انطلاقاً من خبرتها، كما أشار ديوب إلى ضرورة التوسع في انتشار الشركات الداعمة للشركات الصغيرة كشركات التأجير التمويلي وشركات الاستعلام الائتماني، من خلال تفعيل قانون التشاركية بشكل جيد الذي يخدم ماهية هذه المشروعات بشكل غير مباشر، وأضاف أن الاستراتيجية لابد أن تتضمن آليات دمج القطاع الخاص مع القطاع العام من خلال قرارات إدارية وضريبية بأثر رجعي مع تقديم الدعم الفني، بالإضافة إلى تفعيل أسلوب الحماية من خلال تخصيص سلع معينة لا يتم إنتاجها إلا من خلال المشروعات الصغيرة مع التزام هذه المشروعات التي تحصل على مناقصات حكومية بأن يكون هناك نصيب في المدخلات لأصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة.

 

صندوق استثمار

ومن أهم النقاط التي أكد عليها د. ديوب إنشاء جهاز بحثي لاستكشاف فرص الاستثمار الجديد، والقيام بعمل دراسات للسوق يتم فيها تحديد أنواع الصناعات، والمشروعات التي توجد فيها فجوة، وأماكنها، ويتم توجيه الراغبين في إقامة المشروعات إلى هذه المجالات، ويقع على عاتق الحكومة القيام بمعارض محلية وخارجية لمساعدة أصحاب المشروعات على تسويق الإنتاج بمساعدة رجال الأعمال من منطلق المسؤولية الاجتماعية، وتفعيل آلية وجود جهاز واحد يقوم بتقديم كل الموافقات لأصحاب المشروعات، ويتعامل مع كل الأجهزة ذات الصلة في مكان واحد في كل المحافظات، بالإضافة إلى إنشاء صندوق استثمار مباشر، وتوجيه تمويلها للاستثمار في الأماكن الأقل نمواً، ووضح د. ديوب أهمية إلزام البنوك بنسبة طوعية في تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، مع الاستفادة من التعليم الفني والمهني، وتوجيه الخريجين نحو المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والربط بين المشروعات الصغيرة والمتوسطة بإعادة الإعمار من خلال تشجيع الأفراد على المشاركة في هذه البرامج من خلال الاعتماد على التمويل الذاتي من كل الأفراد شريطة أن يكونوا من رواد الأعمال، وذلك يدفعنا لتشجيع الرياديين، والأفكار الريادية، وبناء حاضنات الأعمال، والاعتماد على العناقيد الصناعية في بناء مجمعات تهتم وتختص بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة.

ويرى د. ديوب أن غياب التنسيق بين مختلف القطاعات هو العائق الحقيقي في وجه تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى ضعف المتابعة والرقابة، وذلك لغياب الاستراتيجية الوطنية لتنمية المشروعات، مقترحاً أن تتشارك وزارة الاقتصاد مع وزارة الإدارة المحلية من خلال هيئة تنمية المشروعات في تفعيل وتنمية واقع هذا القطاع، فهي الأقرب إلى الناس والمواطنين، الممثّلة بالبلديات، والمناطق، والمحافظات لتنفيذ استراتيجية وزارة الاقتصاد، مع توفير إجراءات ومعايير رقابية ضابطة وتحكمية للبدء بتمويل هذه المشروعات عبر القروض.

وأخيراً

عدم نجاح الفكرة الكبيرة في غياب التعريف الحقيقي لماهية المشروعات الصغيرة، ومتناهية الصغر، والدعم بتأمين اللوجستيات التي تساعد على تطوير هذه الصناعات كتأجير الأراضي على سبيل المثال، وإزالة المعوقات التي تقف في وجه الراغبين بالبدء بمشاريعهم الإنتاجية، أو تخفيض أسعار مستلزمات الإنتاج كالطاقة التي تشكّل عقبة حقيقية تواجه المشروعات التي تخص الإنتاج الزراعي والحيواني، بالإضافة إلى تقديم الدعم الفني بالتدريب لتنفيذ المشروعات، ليختم حديثه بأن المشكلة دائماً تكون بالإعلان عن أهداف كبيرة وعامة دون العمل على تفريغها بمجموعة أهداف محددة، لتخرج عنها جملة من البرامج والإجراءات التنفيذية، بالإضافة إلى تحديد الجهات التي تنفذ الإجراءات على أرض الواقع.

فاتن شنان – البعث

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]