بين أبراج الحلم و ناطحات العدم …ضاعت الملامح العريقة للمدن السورية

 

مكتشفات أثرية في مدينة السويداء تقدم معطيات هامة عن ماهية الأبنية المعمارية التي تشبه مدينة بصرى الأثرية من حيث وجود البوابات، والأسوار، والمسارح، والحمامات الأثرية، وطبعاً هذا الخبر مر مرور الكرام، ولم يلق أي صدى يذكر في ظل الفوضى العمرانية التي تجتاح السويداء، وطغت على معظم معالمها المعروفة، فلو عدنا بالذاكرة إلى مدينة السويداء في سبعينيات القرن الماضي، نجد أنها كانت مدينة هادئة ونظيفة، معظم أبنيتها من البازلت ذات الطابق أو الطابقين، تتخللها وتحيط بها الأشجار الحراجية، والمساحات الخضراء، ومع بداية القرن الحالي، توسعت المدينة بكافة الاتجاهات، وبدأت النهضة العمرانية العشوائية فيها، لتشوه منظر المدينة في الكثير من تفاصيلها في ظل غياب رؤية واضحة حول توجيه هذه النهضة بشكل يؤمن الحماية الجمالية والبصرية للمدينة، ولا شك في أن ذلك مرده إلى نظام ضابطة البناء المعمول به، وعدم الالتزام بهذا النظام أصلاً!.

أنظمة بناء غير مرضية

تتعرّض أنظمة البناء في المحافظة لانتقادات كبيرة، وعدم الرضى من قبل عدد كبير من مواطني المحافظة بسبب ما حملته هذه الضابطة بين صفحاتها من تعجيزات بنائية تارة، وإشكالات هندسية تارة أخرى، ليتحول منفذو بنود هذه الضابطة إلى مجرد فريق متفرج، وكأنهم يغردون خارج السرب، حيث تحولت ساحتها إلى مرتع لغزو الأبنية البرجية، والتي لا تخلو منها زاوية، أو شارع، أو حارة من حارات السويداء، وبالطبع هذه أول انتكاسة لنظام ضابطة البناء تسجل على مجلس المدينة، والقارئ لهذه السطور يكتشف ذلك، فالاختراق الأول لنظام هذه الضابطة، وباعتراف عدد كبير من المواطنين والمهتمين، هو قيام مجلس مدينة السويداء بمنح تراخيص بالجملة لتشييد أبنية برجية من دون مراعاة لما ورد في نظام ضابطة البناء، فالواقع المرئي يؤكد منحه- أي مجلس مدينة السويداء- تراخيص لتشييد أبنية برجية، رغم أنها تطل على شوارع ضيقة لا يتجاوز عرضها 12 متراً، علماً أن ذلك مخالف لنظام الضابطة، حيث من المفترض أن يكون عرض الشوارع الحاضنة لهذه الأبنية حوالي 20 متراً، إضافة لذلك خلو هذه الأبراج من مرائب للسيارات، مع العلم أنها من أهم الاشتراطات الواردة في نظام الضابطة، وهذا ما دفع مستثمري هذه الأبراج لتحويل الأرصفة والطرقات العامة إلى مواقف لسياراتهم، الأمر الذي خلق حالة من الفوضى والازدحام المروري داخل مدينة السويداء، علماً بأن نظام الضابطة اشترط هذه المرائب للتخفيف من المشكلات المرورية، لكن تنفيذ هذه الاشتراطات مازال ورقياً حتى هذه اللحظة، والسؤال الملقى على مجلس مدينة السويداء: أين هو من هذه الاشتراطات؟ ولماذا لم يلزم المرخصين بها ما دام الأمر سيبقى عشوائياً؟ ولماذا وضعت هذه الضابطة إذاً؟!.

يقول رئيس مجلس المدينة، المهندس وائل جربوع: إن منح تراخيص حسب عامل الاستثمار للأبنية البرجية، حسب ضابطة البناء، أمر وارد في مجلس مدينة السويداء، ويعطى حسب الصفة التنظيمية لكل منطقة، مع مراعاة الوجائب، 5 أمتار لكل وجيبة، وهناك لجنة لقمع المخالفات تتابع في حال حصول أية مخالفة، وتقوم بتنظيم الضبوط اللازمة، وتحويلها للقضاء المختص، وبيّن جربوع وجود دراسة لتعديل ضابطة البناء تم رفعها للجنة الإقليمية بانتظار إقارها، وهذه الدراسة تهدف لعدم منح تراخيص حسب عامل الاستثمار المعمول به حالياً.

 

ربح مادي سريع

ومادمنا نتحدث عن التناقض الكبير بين نظام الضابطة، وما هو مطبق على أرض الواقع، علينا ألا نغفل مسألة في غاية الأهمية، وهي قيام بعض مستثمري هذه الأبنية بتحويل الأقبية إلى شقق سكنية بقصد الربح المادي السريع، ضاربين بما ورد في ضابطة البناء من اشتراطات عرض الحائط، كون ذلك يخالف المادة 37 من نظام ضابطة البناء لمدينة السويداء، وتعميم وزارة الإدارة المحلية رقم 194 تاريخ 9/7/2006 المتضمن منع تفريغ الوجائب المفروضة، واستخدام الأقبية للسكن، وسببت إشادة هذه الأبراج أيضاً حجب النور والتهوية والشمس في مناطق الإشادة لعدم وجود الوجائب، والفراغات، والشوارع العريضة، وبسبب تفاوت ارتفاعها عن الأبنية المجاورة، إضافة إلى عدم توفر مواقف السيارات، حيث تحولت أقبيتها المقررة كمواقف للسيارات إلى مستودعات، ومحلات تجارية، وشقق سكنية، (علماً أن رخصتها من قبل المجلس هي مواقف سيارات)، وقد أثر وجود بعض الأبراج في حجب الكثير من الأبنية الهامة مثل دار الحكومة، والأسواق التجارية القديمة، والعديد من المعالم الأثرية، والتعدي على معظمها بحجة الترميم!.

والمثير للدهشة هو قيام المستثمرين بإشغال الطرق العامة بمواد البناء لأكثر من شهرين أحياناً من دون تحريك أي ساكن من قبل مجلس المدينة، وهذا أيضاً يخالف نظام ضابطة البناء، خاصة المادة 9 منه، كما أنه علينا ألا نتجنب ما يجول في صدور بعض المواطنين من قلق وامتعاض إزاء تلك الضابطة نتيجة لخلقها تفاوتاً بين منطقة وأخرى، فمثلاً، والكلام لمواطني المدينة في الأحياء الواقعة إلى الجنوب من مركز مدينة السويداء، الحد الأدنى للترخيص هو 400 متر مربع، والحد الأقصى 1000 متر مربع، ونسبة البناء 40%، ونظام الضابطة 4 طوابق، بينما في الأحياء الواقعة إلى الشمال من مركز المدينة الحد الأدنى للبناء هو 400 متر مربع، والحد الأقصى 1200 متر مربع، ونسبة البناء 45%، ونظام الضابطة 5 طوابق، وهذا ما خلق العديد من التساؤلات والاستفسارات لدى المواطنين وهي: لماذا هنا لا يسمح لنا سوى بـ 4 طوابق، وفي الحي الآخر 5 طوابق؟! أليس ذلك إجحافاً؟!.. ولكن هذه الاشتراطات حالياً، وفي ظل الحراك البنائي المخالف الذي شهدته ساحة المحافظة في الآونة الأخيرة، تم نسفها برمتها، فالذي يزور تلك المناطق سيرى أن بعض المواطنين تجاوز الحد المسموح به للبناء ليصل عدد الطوابق إلى 6 وأحياناً 7، طبعاً هذه الأبنية المخالفة- حسبما ذكرت نقابة مهندسي السويداء- تركت انعكاسات سلبية من خلال تشويهها للمنظر العام ولنسيج المدينة المعماري، إضافة لما باتت تشكله من خطر على المواطنين القاطنين فيها كونها غير مدروسة هندسياً أو إنشائياً وغير مصممة من حيث السلامة الإنشائية، إضافة لمخالفتها لقانون البناء بسبب التعدي على الأملاك العامة والوجائب، يقول نقيب المهندسين المهندس، معذى سليقة، لقد كان للنقابة دور هام إذ وقفت ضد نظام الضابطة الصادر عن مجلس المدينة في ٢٠٠٦م، وقد قدمت عدة مذكرات بذلك، إذ لم تشارك في إعداده واعتبر سليقة أنه من الخطأ الفادح عدم تمثيل النقابة في اللجنة الإقليمية، مع أن النقابة أيضاً كانت لها مطالبات عديدة بذلك، وطرح سليقة عدة مقترحات تساهم بشكل كبير في تطوير واقع نظام الضابطة والعمل على تحسينها، منها إشراك نقابة المهندسين في إعداد نظام الضابطة، لعدم توفير الكادر الهندسي الكافي في مجلس المدينة، ووجوب تمثيل النقابة في اللجنة الإقليمية كونها تعرف الواقع الجغرافي والمعماري أكثر، والحرص على تشكيل لجنة يتمثل فيها كل من مجلس المدينة والمحافظة والكهرباء والهاتف والسياحة والآثار وشرطة المرور والمياه، وأخيراً نقابة المهندسين بهدف إعداد دراسة شاملة تحمل في طياتها الخدمات والبنى التحتية اللازمة للمناطق العمرانية.

أزمة عقارية

لاشك أن المتابع لحديثنا عن فوضى الأبراج السكنية وكثرتها في السويداء سيصل لنتيجة مفادها أنه لا أزمة عقارية في المحافظة وأن الأسعار مقبولة للمستأجرين بسبب ازدياد المعروض، ولكن الواقع غير ذلك، حيث ارتفع إيجار الشقق السكنية إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف سعرها قبل بدء الأزمة في سورية، في ذلك التاريخ وحسب إحصاء السويداء كان في المدينة وحدها ما يزيد على 16 ألف شقة فارغة تصفر فيها الرياح وكان أصحابها يبحثون عن مستأجر أو شار، بالمقابل سجلت أسعار مبيع الشقق السكنية أرقاماً خرافية لم تعرفها السويداء منذ عقود ليبلغ سعر المتر المربع دون كساء نحو125 ليرة سورية ولم تعد تستطيع الحصول على شقة أقل من 20 مليون ليرة..

ووصلت نسبة زيادة أسعار إيجار الشقق إلى عشرة أضعاف، وتؤكد أم حيان وهي موظفة تعيش وحيدة مع ابنها أن عقد إيجار منزلها في حي الدبيسي في المدينة بدأ منذ أربع سنوات بـ5 آلاف ل. س ثم ارتفع إلى 8 آلاف وبعدها إلى 10 أما حالياً فيطلب صاحب الشقة 30 ألفاً وإن لم تدفع فيمكنها أن تخلي المنزل لأنه على حد قول المالك يستطيع تأجيرها لعائلات من خارج المحافظة بـ50 ألفاً، وطبعاً الشقة التي تتحدث عنها لا تزيد مساحتها على 70 م2، أما الشاب غزوان ولأنه مضطر للانتقال من شقتهم الواقعة في الطابق الرابع لتتناسب مع وضع والدته المريضة وانتقاله إلى شقة طابق أرضي لم يجد شقة بأقل من 20 ألفاً من ذات الحي وعند مناقشته صاحب المنزل بأن السعر مرتفع قليلاً كانت نفس الاسطوانة “المشروخة” بأنه يستطيع تأجيرها لعائلات من خارج المحافظة بضعف هذا السعر، ومع العلم أن أسعار الإيجار تختلف من منطقة إلى أخرى ومن شارع إلى آخر، وأما الشقق المفروشة فهي قضية أخرى حيث باتت تضاهي الإقامة بها شهرياً أسعار الإقامة في فنادق بنجمتين أو ثلاث نجوم.

 

ويبقى السؤال الذي يطرحه هؤلاء أو غيرهم من أهالي المحافظة أين الرقيب والحسيب في هذا الاستغلال الواضح والتحكم بحاجة الناس؟؟

ويبقى تبرير أصحاب الشأن من مكاتب عقارية أو مقاولين أو حتى نقابة مقاولي السويداء هو غلاء أسعار مواد البناء وإيجار نقلها إلى المحافظة وأجرة اليد العاملة ومواد الكساء من أسلاك كهربائية وتمديدات وبياضات وعلى حد قولهم إنهم أخذوا نصيبهم من هذه الأزمة شأنهم شأن أي مواطن أراد شقة للإيجار أم للشراء، وفي كثير من مشاريعهم الإنشائية كانت الخسارة ملازمة لأعمالهم وخاصة مع قلة المواد وتذبذب أسعار الصرف.

ليس للاستثمار

يقول بسام المهتار، وهو صاحب مكتب عقاري، إن معظم الاستثمارات العقارية هدفها ترصيد الأموال وليس الاستثمار وبالتالي نلاحظ وجود تناقض كبير في معادلة العرض والطلب، فالمعروض كبير والطلب كبير وهناك جمود عقاري كبير وهذا سببه الغلاء وهو مبرر نتيجة غلاء أسعار التكلفة، ولكن من كان يحرك السوق العقاري هم طبقة الموظفين عبر القروض العقارية، ولكن اليوم لاتوجد قروض، وبالتالي لايوجد بيع أما تأجير الشقق فهو استثمار غير مجد فكلفة الشقة تصل إلى 20 مليون ليرة سورية يتم تأجيرها بـ30ـ40 ألف ليرة سورية، ويؤكد بسام على فكرة طفرة الأبراج التي تشهدها مدينة السويداء هدفها الترصيد لقلة من أصحاب الأموال الذين ليسوا بحاجة لهذه الأبراج أصلاً.

وهنا نتساءل، وإن كنا لا نتبنى رأي صاحب المكتب العقاري، إذا كانت كل هذه الفوضى المعمارية سببها أشخاص متخمون مادياً وهدفهم ترصيد أموالهم لمستقبل أحفادهم فإلى أين نحن سائرون؟..

مركز المدينة

باستثناء شارعين أساسيين هما الشعراني وأمية، كما يسميهم أبناء المحافظة وهما في مركز المدينة تم تبليطهم بالبلاط البازلتي الأسود لا نجد أي توجه للحفاظ على مركز المدينة على حالها مع إضافات بسيطة تظهر التراث والأصالة لها ليرتادها السياح ويتمتعون بجمال وعظمة تاريخها، إلا أنه في السويداء نجد هناك موجات من التعديات تطال قلب المدينة أطلق صافرتها أحد المسؤولين الذي بارك مرور الشارع المحوري في قلب المدينة الأثرية ليطمس معظم معالمها لغاية في جيبه، ويستمر مسلسل الانتهاكات والتجاوزات حتى يومنا هذا، ليختلط قلب المدينة بعشوائياتها، وتندمج آثارها المعمارية مع فوضى العمارة الحديثة التي تجتاحها.

رفعت الديك – السويداء

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]