ثقافة العمل تتقهقر إلى مستوى يتوعد مؤسسات القطاع العام في سورية بمزيد من الفشل…هروب وتسيب بذريعة ” الراتب لا يكفي”..

 

 

 

 

رفض أنور، سائق التكسي، طلباً إلى المزة، معللاً ذلك بضيق الوقت، وظروف عمله الأساسي التي تجبره على العودة إلى مؤسسته قبل نهاية الدوام الرسمي ليبصم في نهاية دوامه كي لا يحتسب ذلك إجازة، أو غياباً يحسم من راتبه، ولدى سؤاله عن مدى قدرته على الخروج من عمله يومياً، والجمع بينهما في وقت واحد، نظر إلي ممتعضاً وكأنني أحاسبه وقال: “وهل الوظيفة بتطعمي خبز؟!”، وأخذ يطرح أمثلة كثيرة عن زملائه الموظفين الملتزمين بأعمال أخرى خلال الدوام، وهو ليس استثناء، حسب رأيه، بل إن الضيق المادي والاقتصادي أجبر الكثيرين على البحث عن طرق قد تكون ملتوية لزيادة دخلهم، وحفظ ماء وجههم أمام أسرهم، وبدأ بالشرح عن صعوبات الحياة، وغلاء المعيشة في ظل وجود أسرة، وأولاده الخمسة، وهو المعيل الوحيد، مضيفاً بأنه يعمل لساعات متأخرة من الفجر، ومع ذلك العجز يتضاعف كل يوم في ميزانيته، قد تكون حالة إنسانية عامة نتعاطف معها في بداية الأمر، خاصة في ظل الأزمة، وما خلقته من تفاوت كبير بين الدخل والنفقات، ولكن هل تكون معالجة الوضع الاقتصادي بحجز وظيفة في القطاع العام، مع الالتحاق بعمل آخر في الوقت نفسه، لاسيما بوجود مئات العاطلين عن العمل، وعدم اغتنامهم فرصة عمل واحدة؟! وكيف يكون مستقبل سورية وقطاعها العام، وتحديداً موظفيها بوجود من يعتبرها مجرد راتب يُقبض في آخر الشهر دون النظر إلى تطويره وتحسين أدائه؟!.. السؤال برسم الجهات المعنية التي تبحث نظرياً عن تطوير القطاع العام دون البدء بالمعالجة الفعلية، وربط الإنتاج بالدخل، ليكون ذلك حافزاً ومشجعاً للالتزام به وتنميته؟!.

ترهّل

قد تكون وزارة التنمية الإدارية في مرسوم إحداثها أحد الحلول لإعادة هيكلة القطاع العام بأسس وطرق مدروسة لدراسة مهام الجهات العامة، وتحديد متطلباتها لتوفير نوعية القوى العاملة اللازمة لها بإجراء تحليل للقوى العاملة في تلك الجهة إن كانت تعاني من فائض، أو عجز في العمالة، وفق هذا المنظور يتم وضع الخطة المناسبة للاستفادة من الفائض بالعمالة، مؤكدة “وزارة التنمية” قيام مديرياتها في الجهات العامة بالعمل وفق هذه النظرية من خلال دعمهم بالبرامج التأهيلية، وورشات العمل في مجال بناء القدرات الفردية والمؤسساتية، وبرامج الجدارة القيادية، وتأهيل الفريق الوطني لبرنامج إدارة موارد المؤسسات، واختيار طرق فعالة في انتقاء الأكفأ، وانتفاء الواسطة والمحسوبيات عبر التعيين المباشر بالتركيز على المهارات اللازمة لشغل الوظائف، فالمؤهل العلمي وحده لا يكفي لشغل وظيفة معينة، بل لابد من توفر معايير ومؤهلات، حسب “رد وزارة التنمية”، ورغم بريق الكلام فإن الهدف بالتطبيق على أرض الواقع، والانتقال من مرحلة التنظير إلى التطبيق، ولكن يبدو أن وزارة التنمية لم تفلح منذ إحداثها بالتطبيق على أرض الواقع، وبقيت حبيسة الكتب الرسمية، والاقتراحات، واجترار قرارات فاشلة، فيما تتفاقم معاناة القطاع العام نتيجة الأزمة، والفساد، وتسرب الخبرات اللازمة إلى خارج البلاد؟!.

 

إحجام

وبالرغم من إعداد مشروع لتعديل القانون الأساسي للعاملين في الدولة لدى وزارة العمل لضمان دقة إجراء المسابقات والاختبارات وقانونيتها الذي نص على وجود لجنة مؤلفة من عدة جهات عامة تقوم بالإشراف على مسابقات التعيين، في محاولة لاختبار الخبرات والكفاءات المناسبة لشغل الوظائف، ومنعاً للمحسوبيات والتزكية في التوظيف، وإطلاق العديد من المبادرات، والبرامج، والمشاريع لريادة الأعمال، وتشغيل الشباب، كبرنامج تشغيل الشباب الذي تم إطلاقه في عام 2011، وبلغ عدد المستفيدين منه /8995/ لعام 2011، و/25000/ لعام 2012، إلا أن هذه السياسات غير كافية، ودون المستوى المطلوب ما لم يتم الالتزام والاستمرار بالعمل وفقها، فاليوم نحن أحوج إلى خلق مناخ كفيل بإحداث تغيير جذري بكيفية التغلب على إرهاصات الأزمة، وخلق حلول مبتكرة تؤتي ثمارها سريعاً.

هيكلة

إن إعادة الهيكلة من جديد، وترتيب الآليات والموارد البشرية في القطاع العام، هي أهم المراحل القادمة على البلد بعد الأزمة، باعتبار القطاع العام القاطرة الرئيسية التي تجر الاقتصاد الوطني، حسب رأي الدكتور زكوان قريط، خبير اقتصادي، مؤكداً على إخضاع قطاعات الدولة إلى تحليل “السوات” المعروف في علم إدارة الأعمال لمعرفة نقاط القوة والضعف والتهديدات والمخاطر والفرص لأي جهة، لأن إصدار قرارات أو مراسيم لا يعطي الحلول المجدية لإصلاح القطاع العام برأيه، إنما حلها بتشكيل لجان مندوبين من وزارة العمل والاقتصاد وإشراك كوادر الجامعات في دراسة حالة كل جهة على حدة، وإلزام  القطاعات التي تعاني من البطالة المقنعة بوضع موظفيها تحت تصرف الحكومة حتى نهاية الأزمة ومن ثم يعاد ترتيبها كمرحلة أولية في الإصلاح والمعالجة.

 

تنظيم

في الرؤية المستقبلية في رأي الدكتور قريط للحد من المحسوبيات والفساد في التوظيف، هي المسابقات الالكترونية وإدخال الأتمتة في التعيين في الوظيفة العامة، وقد وضحّها بإعداد بطاقات توصيف للعمل وللعامل، لتتضمن البطاقة توصيف العمل من مؤهلات وخبرات أو شهادات التي تتطلبها تلك الوظيفة، وبطاقة توصيف للعامل أيضاً تتضمن مؤهلاته، حيث يتم إجراء اختبارات كتابية مؤتمتة، ومن ثم يتم تثقيل علامتها وإضافتها إلى بطاقة توصيف العامل، ضمن برنامج إلكتروني آلي يعمل على مطابقة بين بطاقة العمل وبطاقة العامل، ويبين نسبة تطابقهم دون تدخل من العنصر البشري، وبذلك يتم اختيار العامل أو الموظف بعيداً عن رأي المعنيين أو تدخل الواسطات في تعيينه.

 

راتب

ووافق الدكتور أيمن ديوب “خبير في علم الإدارة” الدكتور قريط فيما ذهب إليه، مضيفاً أن  القطاع الحكومي يعاني من البطالة وسوء التوزيع معاً، لأنه افتقد مبدأ التوظيف على بطاقة التوصيف الوظيفي، وقد تكون الحكومة مسؤولة في الماضي عن هذا الوضع من خلال التزامها الاجتماعي بتعيين المواطنين بشكل مستمر، مما شكل عبئاً على الدولة و الوظيفة العامة وأصابها بالترهل الهيكلي، فحولها  إلى مجرد راتب في آخر الشهر، مشيراً إلى أن اعتماد الوظيفة العامة على مبدأ الترقية الوظيفية كل سنتين أفقد الوظيفة العامة الحافز والنشاط، وساوى بين جميع الموظفين، ونمّى روح الاتكالية فيها.

حلول

لذلك وصلنا من خلال بحثنا معه عن المقترحات والحلول، أن الحل في إعداد بطاقة التوصيف الوظيفي والمراكز الوظيفية ورسم الهيكل التنظيمي للمؤسسة ضرورة أساسية في المرحلة الحالية لإعادة هيكلة الوظيفة العامة، ثم يكون التوظيف بناء على معايير موضوعة أساساً، مع وجوب اعتماد مبدأ ربط الأجر بالإنتاج وتحرير الرواتب لتشكل الحافز لجميع الموظفين لتقديم أفضل ما لديهم، إضافة إلى التخلي عن الترقية السنوية التي تشمل الموظفين بشكل روتيني، وتبنّي إستراتيجية جديدة في التعيين والترقية تحترم العامل الكفء والمجد وتقدره، فتشجعه على الإنتاج.

في حين رأى الدكتور عابد فضلية أن إصلاح الوظيفة العامة يحتاج إلى إصلاح عن طريق وجود لجنة فنية تتضمن خبراء من داخل المؤسسة وخارجها لتكون نظرة متكاملة لا تخضع لنظرة أحادية الجانب من قبل مسؤولي المؤسسة، بقوانين وتشريعات تطال جميع العاملين فيها، بالإضافة إلى إصلاح نظام الأجور والحوافز وربط الدخل بالإنتاج، وتعديل الفارق بين الشهادات الأكاديمية ليكون الفارق مجزياً، ويحفزها بالالتزام بالقطاع العام، وقد ذهب د. فضلية برأيه إلى أبعد من ذلك باقتراح لامتلاك العمال المنتجين والمثابرين لأسهم في شركتهم ضمن بيئة تشريعية قانونية تضمن حقوقهم وواجباتهم، فتدفعهم إلى مزيد من الإنتاج والعطاء والالتزام، وتعطيهم صلاحيات، وتحميلهم المسؤوليات، بالإضافة إلى تفعيل مبدأ الثواب والعقاب، ما يفتح أمامهم المجالات لتحقيق طموحاتهم من خلال عملهم الوظيفي.

 

مشروع خطير

واعتبر د. ديوب أن نظام المراتب الوظيفية الذي يتم إعداده في وزارة العمل، هو أخطر مشروع يتم العمل عليه، وقد يكون مؤذياً، حسب ما أكده، لعدم تناسب إدارته مع فكر الإدارة الموجود في المؤسسات، موضحاً أهمية فهم البيروقراطية بالشكل الصحيح، فهي أفضل نموذج لبناء أي دولة في العالم، والروتين الذي أخذناه من البيروقراطية هو عبارة عن سوء تطبيق منظومي، مختتماً حديثه بأن الآن إصلاح الوظيفة العامة في سورية هو ممر إجباري لمكافحة الفساد الموجود في ظل الأزمة، ويجب علينا أخذ قرار جريء، والبدء بسياسة التغيير من خلال ربط القطاع الحكومي بفكر استثماري حقيقي وإدارته بفكر القطاع الخاص، مستشهداً بواقع شركة النقل السياحية “الكرنك سابقاً” التي تدار بفكر القطاع الخاص وتحقق الأرباح الكبيرة.

 

التعليقات مغلقة.

[ جديد الخبير ]